فلست إذا أخا عفو وصفح ... ولا لأخ على عهد وثيق
إذا زلّ الرفيق وأنت ممّن ... بلا رفق بقيت بلا رفيق
إذا أنت أتّخذت أخا جديدا ... لما أنكرت من خلق عتيق
فما تدري لعلك مستجير ... من الرمضاء فرّ إلى الحريق «١»
فكم من سالك لطريق أمن ... أتاه ما يحاذر في الطريق
وشتم رجل رجلا فقال له: يا هذا لا تغرق في شتمنا ودع للصلح موضعا «٢» ، فإني أبيت مشاتمة الرجال صغيرا، فلن أجيئها كبيرا، وإني لا أكافىء من عصى الله فيّ بأكثر من أن أطيع الله فيه.
وحكي عن جعفر الصادق رضي الله عنه: أن غلاما له وقف يصب الماء على يديه، فوقع الإبريق من يد الغلام في الطست، فطار الرشاش في وجهه، فنظر جعفر إليه نظر مغضب، فقال يا مولاي: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ
«٣» قال:
قد كظمت غيظي، قال: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ
«٤» قال: قد عفوت عنك، قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
«٥» قال: إذهب، فأنت حر لوجه الله تعالى.
وقيل: لما قدم نصر بن منيع بين يدي الخليفة، وكان قد أمر بضرب عنقه، قال: يا أمير المؤمنين، اسمع مني كلمات أقولها. قال: قل، فأنشأ يقول:
زعموا بأن الصقر صادف مرة ... عصفور برّ ساقه التقدير
فتكلم العصفور تحت جناحه ... والصقر منقضّ عليه يطير
إنّي لمثلك لا أتمّم لقمة ... ولئن شويت فإنني لحقير
فتهاون الصقر المدلّ بصيده ... كرما وأفلت ذلك العصفور
قال فعفا عنه وخلى سبيله.
قال الشاعر:
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزهم ... عنه فإن جحود الذنب ذنبان «٦»
وقال بعضهم:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف ... وتاب عمّا قد جناه واقترف
لقوله قل للذين كفروا ... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
وقال آخر:
إذا ذكرت أياديك التي سلفت ... مع قبح فعلي وزلّاتي ومجترمي
أكاد أقتل نفسي ثم يدركني ... علمي بأنك مجبول على الكرم
وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى سكران، فأراد أن يأخذه ليعزره، فشتمه السكران، فرجع عنه، فقيل له يا أمير المؤمنين: لما شتمك تركته، قال: إنما تركته لأنه أغضبني، فلو عزرته لكنت قد انتصرت لنفسي، فلا أحب أن أضرب مسلما لحمية نفسي.
وغضب المنصور على رجل من الكتّاب، فأمر بضرب عنقه، فأنشأ يقول:
وإنّا الكاتبونا وإن أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبينا
فعفا عنه وخلى سبيله وأكرمه.
وقال الرشيد لأعرابي: بم بلغ فيكم هشام بن عروة هذه المنزلة؟ قال: بحلمه عن سفيهنا، وعفوه عن مسيئنا، وحمله عن ضعيفنا. لا منّان إذا وهب، ولا حقود إذا غضب، رحب الجنان سمح البنان، ماضي اللسان، قال:
فأومأ الرشيد إلى كلب صيد كان بين يديه، وقال: والله لو كانت هذه في هذا الكلب لاستحق بها السؤدد.
وقيل لمعن بن زائدة: المؤاخذة بالذنب من السؤدد؟
قال: لا، ولكن أحسن ما يكون الصفح عمّن عظم جرمه، وقلّ شفعاؤه، ولم يجد ناصرا «٧» .