أنه لما خرج عمه إبراهيم المهدي عليه وبايعه العباسيون بالخلافة ببغداد وخلعوا المأمون، وكان المأمون إذ ذاك بخراسان فلما بلغه الخبر قصد العراق فلما بلغ بغداد اختفى إبراهيم بن المهدي وعاد العباسيون وغيرهم إلى طاعة المأمون ولم يزل المأمون متطلبا «١» لابراهيم حتى أخذه وهو متنقب «٢» مع نسوة، فحبس ثم أحضر حتى وقف بين يدي المأمون فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فقال المأمون: لا سلم الله عليك ولا قرب دارك، استغواك «٣» الشيطان حتى حدثتك نفسك بما تنقطع دونه الأوهام «٤» . فقال له إبراهيم: مهلا يا أمير المؤمنين فإنّ ولي الثأر محكّم في القصاص والعفو أقرب للتقوى، ولك من رسول الله صلى الله عليه وسلم شرف القرابة وعدل السياسة وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب كما جعل كل ذي ذنب دونك، فإن أخذت فبحقك وإن عفوت فبفضلك، والفضل أولى بك يا أمير المؤمنين ثم قال هذه الأبيات:
ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظم منه
فخذ بحقّك أو لا ... فاصفح بعفوك عنه
إن لم أكن في فعالي ... من الكرام فكنه
فلما سمع المأمون كلامه وشعره ظهرت الدموع في عينيه وقال: يا إبراهيم الندم توبة وعفو الله تعالى أعظم ما تحاول وأكثر مما تأمل، ولقد حبب إلي العفو حتى خفت أن لا أؤجر عليه، لا تثريب «٥» عليك اليوم. ثم أمر بفك قيوده وإدخاله الحمام وإزالة شعثه «٦» وخلع عليه ورد أمواله جميعها إليه فقال فيه مخاطبا:
رددت مالي ولم تبخل عليّ به ... وقبل ردّك مالي قد حقنت دمي
فإن جحدتك ما أوليت من كرم ... إنّي لباللؤم أولى منك بالكرم
وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج يأمره أن يبعث إليه برأس عباد بن أسلم البكري، فقال له عباد: أيها الأمير أنشدك الله لا تقتلني، فو الله إني لأعول أربعا وعشرين امرأة ما لهن كاسب غيري. فرق لهن واستحضرهن وإذا واحدة منهن كالبدر، فقال له الحجاج: ما أنت منه؟
قالت: أنا بنته فاسمع يا حجاج مني ما أقول ثم قالت:
أحجاج إمّا أن تمنّ بتركه ... علينا وإما أن تقتّلنا معا
أحجاج لا تفجع به إن قتلته ... ثمانا وعشرا واثنتين وأربعا
أحجاج لا تترك عليه بناته ... وخالاته يندبنه الدهر أجمعا
فبكى الحجاج ورق له واستوهبه من أمير المؤمنين عبد الملك وأمر له بصلة.
ولما قدم عيينة بن حصن على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر رضي الله عنه، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا. فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير»
فاستأذن لي عليه، فاستأذن، فأذن له عمر فلما دخل قال: هيه يا ابن الخطاب فو الله ما تعطينا الجزل «٨» ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله سبحانه وتعالى قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ١٩٩
«٩» وإن هذا من الجاهلين فو الله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله تعالى.
وحكي أن رجلا زوّر ورقة عن خط الفضل بن الربيع، تتضمن أنه أطلق له ألف دينار ثم جاء بها إلى وكيل الفضل، فلما وقف الوكيل عليها لم يشك أنها خط الفضل فشرع في أن يزن له الألف دينار، وإذا بالفضل قد حضر ليتحدث مع وكيله في تلك الساعة في أمر مهم فلما جلس أخبره الوكيل بأمر الرجل وأوقفه على الورقة فنظر الفضل