فيها ثم نظر في وجه الرجل فرآه كاد يموت من الوجل «١» والخجل فأطرق الفضل «٢» ، بوجهه ثم قال للوكيل:
أتدري لم أتيتك في هذا الوقت؟ قال: لا، قال: جئت لأستنهضك حتى تعجل لهذا الرجل إعطاء المبلغ الذي في هذه الورقة.
فأسرع عند ذلك الوكيل في وزن المال وناوله الرجل فقبضه وصار متحيرا في أمره فالتفت إليه الفضل وقال له:
طب نفسا وامض إلى سبيلك آمنا على نفسك فقبل الرجل يده وقال له سترتني سترك الله في الدنيا والآخرة، ثم أخذ المال ومضى.
فيجب على الإنسان أن يتأسى بهذه الأخلاق الجميلة والأفعال الجليلة ويقتفي سنة نبيه عليه الصلاة والسلام، فقد كان أكثر الناس حلما وأحسنهم خلقا وأكرمهم خلقا وأكثرهم تجاوزا وصفحا وأبرهم للمعتر عليه نجحا، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
وأما ما جاء في العتاب فقد قيل العتاب خير من الحقد ولا يكون العتاب إلا على زلة. وقد مدحه قوم فقالوا: العتاب حدائق المتحابين ودليل على بقاء المودة وقد قال أبو الحسن بن منقذ شعرا:
أسطو عليه وقلبي لو تمكّن من ... يديّ غلّهما غيظا إلى عنقي «٣»
وأستعير له من سطوتي حنقا ... وأين ذل الهوى من عزة الحنق «٤»
وذمه بعضهم، قال إياس بن معاوية: خرجت في سفر ومعي رجل من الأعراب فلما كان في بعض المناهل «٥» لقيه ابن عم فتعانقا وتعاتبا وإلى جانبهما شيخ من الحي فقال لهما: أنعما عيشا إن المعاتبة تبعث التجني والتجني يبعث المخاصمة والمخاصمة تبعث العداوة ولا خير في شيء ثمرته العداوة.
قال الشاعر:
فدع ذكر العتاب فربّ شرّ ... طويل هاج أوّله العتاب
وقيل: العتاب من حركات الشوق، وإنما يكون هذا بين المتحابين. قال الشاعر:
علامة ما بين المحبين في الهوى ... عتابهم في كل حقّ وباطل
وكتب بعضهم يعاتب صديقه على تغير حاله معه يقول:
عرضنا أنفسا عزّت علينا ... عليكم فاستخف بها الهوان
ولو أنّا رفعناها لعزّت ... ولكن كل معروض مهان
وقال آخر يعاتب صديقه:
وكنت إذا ما جئت أدنيت مجلسي ... ووجهك من تلك البشاشة يقطر
فمن لي بالعين التي كنت مرّة ... إليّ بها في سالف الدهر تنظر
وقال أبو الحسن بن منقذ:
أخلاقك الغرّ السجايا «٦» ما لها ... حملت قذى الواشين وهي سلاف «٧»
ومرآة رأيك في عبيدك ما لها ... صدئت وأنت الجوهر الشفاف
وقال آخر يعاتب صديقه على كتاب أرسله إليه وفيه حط عليه:
اقرأ كتابك واعتبره قريبا ... فكفى بنفسك لي عليك حسيبا
أكذا يكون خطاب إخوان الصفا ... إن أرسلوا جعلوا الخطاب خطوبا
ما كان عذري أن أجبت بمثله ... أو كنت بالعتب العنيف مجيبا
لكنني خفت انتقاص مودّتي ... فيعد إحساني إليك ذنوبا
وقال آخر:
أراك إذا ما قلت قولا قبلته ... وليس لأقوالي لديك قبول
وما ذاك إلا أنّ ظنّك سيىء ... بأهل الوفا والظن فيك جميل