للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عدم جواز الاحتجاج بالقدر على ترك المأمورات أو فعل المحظورات]

لا يجوز الاحتجاج بالقدر على ترك مأمور لا فعل محظور، فمن فعل معصية لها عقوبة محددة شرعاً، واعتذر عن فعله بأن ذلك كتب عليه وقدر فإنه يعاقب بالعقوبة الشرعية، ويقال له: إن معاقبتك بهذه العقوبة قدر.

وأما ما جاء في حديث محاجة آدم وموسى في القدر فليس من قبيل الاحتجاج بالقدر على فعل معصية، وإنما هو على المصيبة التي كانت بسبب المعصية.

فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (احتج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة! فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه ثم تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى.

مرتين).

وقد خصّ ابن القيم في كتابه (شفاء العليل) الباب الثالث بالكلام على هذا الحديث، فذكر ما قيل في معناه من أقوال باطلة، وذكر الآيات التي فيها احتجاج المشركين على شركهم بالقدر، وأن الله أكذبهم بأنهم باقون على شركهم وكفرهم، وأن ما قالوه هو من الحق الذي أريد به باطل، ثم ذكر توجيهين لمعنى الحديث: أولهما لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، والثاني من فهمه واستنباطه، فقال في (ص٣٥): إذا عرفت هذا فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد تاب منه فاعله فاجتباه ربه بعده وهداه واصطفاه، وآدم أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته، بل إنّا لا نلوم آدم على المصيبة التي نالت الذرية بخروجه من الجنة، ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئة تنبيهاً على سبب المصيبة والمحنة التي نالت الذرية، ولهذا قال له: (أخرجتنا ونفسك من الجنة)، وفي لفظ: (خيبتنا)، احتج آدم بالقدر على المصيبة وقال: (إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي).

والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب، أي: أتلومني على مصيبة قدرت علي وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة؟! فهذا جواب شيخنا رحمه الله.

وقد يتوجه جواب آخر، وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه وترك معاودته، كما فعل آدم، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع؛ لأنه لا يَدْفَع بالقدر أمراً ولا نهياً، ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة.

يوضحه أن آدم قال لموسى: (أتلومني على أن عملت عملاً كان مكتوباً علي قبل أن أخلق)، فإذا أذنب الرجل ذنباًَ ثم تاب منه توبة وزال أمره حتى كأن لم يكن، فأنبه مؤنب عليه أو لامه ملامةً فإنه يحَسُن له أن يحتج بالقدر بعد ذلك، ويقول: هذا أمر كان قد قدر عليّ قبل أن أخلق.

فإنه لم يدفع بالقدر حقاً، ولا ذكر حجة له على باطل، ولا محذور في الاحتجاج به.

وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل، كأن يرتكب فعلاً محرماً، أو يترك واجباً، فيلومه عليه لائم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقاً ويرتكب باطلاً، كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:١٤٨]، {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:٢٠].

فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه، فلم يندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولم يقروا بفساده، فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه وندم وعزم كل العزم على أن لا يعود، فإذا لامه لائم بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله.

ونكتة المسألة سبب اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان سبب اللوم واقعاً فالاحتجاج بالقدر باطل.