للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإيمان والتسليم بما يكون في القبر وما بعد ذلك]

ثم إن عذاب القبر -كما هو معلوم- أمر غيبي، فلو فتحنا القبر فإنا لا نجد فيه جنة ولا ناراً، فلا يُنكر ذلك بحجة عدم رؤيته، فأمور الآخرة تختلف عن أمور الدنيا، وأمور البرزخ تختلف عن أمور الدنيا، فقد حجب الله تعالى عنا ذلك، كما حجب عنا -أيضاً- ما يجري في القبور من الأصوات ومن العذاب والصياح، وقد أطلع الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على بعض ذلك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: (لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع)، والحكمة في ذلك -والله أعلم- أن يتميز من يؤمن بالغيب ممن لا يؤمن به، فلو كانت أمور الآخرة علانية لما تميَّز من يؤمن بالغيب ومن لا يؤمن به، ولهذا ستحصل أمور الآخرة في الآخرة ولا تحصل في الدنيا، فهناك أناس يصدقون بكل خبر، وهناك أناس يقولون: هذا غير معقول.

وهذا مثل حال بعض الفرق الضالة التي تقول: إن الجنة والنار ليستا موجودتين؛ لأنهما لو كانتا موجودتين لكان وجودهما عبثاً؛ لأنه لا يستفاد منهما.

وهذا كلام باطل؛ لأن الآية أخبرت بأن العذاب حاصل قبل يوم القيامة في عذاب النار نفسه، وأن المنعم يصل إليه النعيم وهو في قبره، فيفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها، فمعنى ذلك أن النعيم والعذاب حاصلان، ومما يبين هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صلى بالناس صلاة الكسوف عُرضت عليه الجنة والنار، فرأى عناقيد العنب متدلية، فمد يده ليتناول عنقوداً ثم ترك، وكان الصحابة رضي الله عنهم وراءه يرون يده تمتد ولا يرون الذي مُدَّت إليه اليد، وعرضت عليه النار فتكأكأ، أي: رجع القهقرى، ولما فرغ من صلاته قالوا: يا رسول الله! رأيناك تقدمت وكأنك تتناول شيئاً، ورأيناك تكأكأت! فقال: (عرضت علي الجنة، ورأيت عناقيد العنب، فأردت أن آخذ عنقوداً ثم تركت، ولو أخذت منه لأكلتم ما بقي من الدنيا) ولكنه ترك ذلك حتى تبقى أمور الآخرة غيباً، وحتى يتميز من يؤمن بالغيب ممن لا يؤمن بذلك، فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لم يروا هذا الذي رآه الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أسمع الله نبيه ما يجري في القبور، وحجب ذلك عنهم فلم يسمعوه.

فالله تعالى على كل شيء قدير، وله أن يطلع من شاء من خلقه على ما شاء من غيبه، وأن يحجب ذلك عمن يشاء.

وقد نص الشارع في ذكر العذاب على القبر؛ لأن الغالب على الناس أن يقبروا، ومن الناس من لا يقبر، فبعضهم يحترق ولا يبقى لجسمه أثر، ومن الناس من يغرق وتأكله الحيتان، لكن الغالب أن الناس يقبرون، ولهذا جاءت النصوص في الكتاب والسنة على عذاب القبر، فذكر القبر من باب الغالب، فمن لم يقبر وهو مستحق للنعيم فإنه يصل إليه، ومن لم يقبر وهو مستحق للعذاب فإنه يصل إليه العذاب، والله على كل شيء قدير.

وقد جاء في السنة أن الأنبياء حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم، فالذين أكلتهم الأرض وصاروا مختلطين بالتراب يصلهم النعيم والعذاب، والذي يحترق ويتفرق في الهواء يصل إليه النعيم والعذاب، فمن كان مستحقاً للنعيم وصل إليه، ومن كان مستحقاً للعذاب وصل إليه.

وقد يقبر اثنان في قبر واحد ويكون أحدهما في نعيم والثاني في جحيم، وهذا لا يصل إليه نعيم هذا، وهذا لا يصل إليه عذاب الآخر، والله تعالى على كل شيء قدير.

وهناك في أمور الدنيا من الشواهد ما يوضح هذا المعنى، فقد يكون الاثنان نائمين في مكان واحد، ثم يقومان من النوم وأحدهما مسرور لأنه رأى في منامه أموراً سارة، وأما الثاني فيقوم وهو حزين؛ لأنه رأى الوحوش تلاحقه، أو رأى الحيات تطارده، فيحصل له من البلاء والعذاب ما الله به عليم، ومع ذلك لم يدر أحدهما عن صاحبه شيئاً.

فأمور الآخرة وأمور البرزخ جهلها من باب أولى، فلا تقاس على أمور الدنيا، وإنما هي أمور مخفية.

وجاء في الحديث أن الإنسان الكافر عندما يضرب بمرزبة يصرخ صرخة يسمعها كل شيء من الحيوانات إلا الثقلين؛ لأنهما مكلفان، فلذلك أخفى الله عليهم ذلك، والحيوانات نفسها تسمع ما يجري في القبر، فالله تعالى أسمع من شاء من خلقه، وأخفى ذلك عمن شاء من خلقه -وهم المكلفون- حتى يتميز من يؤمن بالغيب ممن لا يؤمن به، وعلى هذا فإن الواجب هو الإيمان بكل ما جاء في القرآن والسنة مما يتعلق باليوم الآخر، ومن ذلك -أيضاً- ما يتعلق بالبرزخ، فالبرزخ تابع لليوم الآخر، فكل ذلك داخل في دار الجزاء، فما بعد الموت كله جزاء، وما قبل الموت كله عمل، كما مر في أثر علي رضي الله عنه (اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل).