للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تكليف الشرع بالمستطاع]

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، وهذه الجملة من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه دخل فيها الأمر بفعل كل مأمور به على قدر الطاقة وعلى قدر الاستطاعة، والنهي عن الإتيان أو الإقدام على كل منهي عنه مطلقاً، بدون تقييد؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه)، وما قال: ما استطعتم، وإنما أطلق؛ لأن المناهي تروك والتروك مستطاعة، فالإنسان يستطيع ألا يفعل، وأما الأوامر فقيدت بالاستطاعة؛ لأنها تكليف بفعل مطلوب الإتيان به، فقد يستطاع وقد لا يستطاع، ولكن الإنسان يأتي به على قدر استطاعته، كما قال عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]؛ فلهذا قيد الأمر بفعل المأمورات بالاستطاعة، ولم يقيد ترك المنهيات بالاستطاعة؛ لأن تركها مستطاع، وكل يستطيع ألا يفعل، لكن ليس كل يستطيع أن يفعل؛ لأن الفعل هو تكليف وأوامر.

فمثلاً: الصلاة مطلوب من الإنسان أن يأتي بها قائماً إذا كان في الفريضة، ولا يجوز ولا يصح الإتيان بها جالساً إذا كان قادراً على القيام، والإنسان مأمور بأن يصلي، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن الإنسان يصلي على قدر طاقته، كما جاء في حديث عمران بن حصين: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب).

وهذا من أمثلة قوله: (فأتوا منه ما استطعتم)، يعني: أن الإنسان يأتي بالعمل على قدر طاقته، كما قال عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]، يأتي به على قدر طاقته، ولا يلزم بأن يعمل شيئاً لا يطيقه، فإنسان لا يستطيع أن يقوم لا يلزمه أن يقوم.

وأما النواهي فهي التروك، والتروك مستطاعة، فإذا قيل: لا تشع بالخبر فلا تشعه، لا تزن فلا تزن لا تراب فلا تراب لا تسرق فلا تسرق لا تخن فلا تخن لا تغتب فلا تغتب فهذه كلها تروك، فإذا قيل: اترك فاترك، لأن الترك مستطاع.

وأما الأمر: فهو الذي قد يستطاع وقد لا يستطاع، والإنسان يأتي به على قدر طاقته، قال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:١٦].

وهنا يقول عليه الصلاة والسلام: (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، فالإنسان مأمور أن يتوضأ، فإذا لم يجد ماءً يكفي للوضوء ولكنه يجد شيئاً يكفي للبعض، فإنه يتوضأ بالموجود ويتيمم للباقي؛ لأن هذا هو الذي يستطيعه، وكذلك الإنسان لابد أن يخرج زكاة الفطر، فمن وجبت عليه زكاة الفطر وهو يستطيع الصاع يدفع صاعاً، لكن من لم يستطع إلا نصف الصاع فيدفع نصف الصاع؛ لقوله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:١٦]، فيأتي بقدر ما يستطيعه، ولا يقال: إنه إن حصل صاعاً فإنه يفعل وإن لم يحصل إلا أقل من صاع لا يفعل؛ لأن نصف الصاع يكفي ويغني وفيه فائدة للمحتاجين.

فإذا كان عنده زيادة عن حاجته بمقدار نصف الصاع وليس عنده صاع فإنه يدفع نصف الصاع، ونصف الصاع يكفي لمن هو محتاج إليه، ولمن ليس بيده شيء أصلاً، لكن الحد المطلوب والقدر المطلوب هو صاع، لكن من لا يستطيع الصاع واستطاع دونه فإنه يفعله، لكن لا يقال هذا في كل شيء، فالإنسان إذا لم يستطع أن يصوم إلا نصف النهار فهل نقول: إنه يصوم نصف النهار ويفطر النصف الآخر؟

الجواب

لا؛ لأن الصوم لا يتجزأ، وإنما له بداية وله نهاية.

فالإنسان الذي يأتي به، والإنسان الذي لا يأتي به {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:١٨٤]، ولا يقال: إن الإنسان يمكن أن يصوم بعض الوقت ويفطر في أثناء النهار؛ لأنه يستطيع أن يصوم نصف النهار ولكن لا يستطيع صيام النهار كاملاً، فليس هذا من هذا القبيل الذي يجوز؛ لأن ذلك يقبل التجزئة وهذا لا يقبل التجزئة، وإن كان الإنسان قدم مسافراً وكان مفطراً لكونه مسافراً، فقد وصل البلد وانتهى حكم السفر، فإنه يمسك البقية، ولا يجوز له أن يأكل ما دام أنه مقيم ولو كان بعض النهار الذي هو آخره؛ لأن الأكل أبيح له لعارض، فلما انتهى ذلك العارض وصار من المقيمين صار حكمه حكم المقيمين، ويلزمه أن يمسك بقية اليوم، كما أن القضاء متعين عليه؛ لأنه لم يصم ذلك اليوم، لكنه لا يأكل ولا يشرب وهو حاضر، ولو أنه كان في أول النهار من أهل الأعذار الذين لهم أن يأكلوا، لكن العذر زال فعليه أن يمسك، ولا يستفيد من هذا الإمساك شيئاً، بمعنى: أنه لا يمكن أن يغني عن الواجب، بل لابد أن يقضي يوماً مكان ذلك اليوم.

وكما قلت: إن هذا مقيد بالاستطاعة، والترك لم يقيد بالاستطاعة، فهذا هو الفرق؛ لأن هذه تروك وهذه أفعال، يتضح ذلك في الأمور الحسية، والأمور المشاهدة المعاينة، فمثلاً: لو قال إنسان: لا تدخل من هذا الباب.

فإنه يستطيع أن لا يدخل من هذا الباب، ولا يصعب عليه، بل يستطيع ألا يدخل، فهذا ترك وهو مستطاع، لكن لو قال له: احمل هذه الصخرة.

فقد يستطيع حملها وقد لا يستطيع، فهذا فعل وتكليف، وقد يستطيع حملها وقد لا يستطيع حملها.

فالأوامر قد تستطاع وقد لا تستطاع، والنواهي مستطاعة، ولا يقال: إنها غير مستطاعة، بل هي مستطاعة، فعلى الإنسان أن يمتثل المأمور على حسب استطاعته، وأن يترك المنهي مطلقاً.