فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية خرج الناس من قبورهم وقد أكلت الأرض ما أكلت منهم، فيعيد الله عز وجل كل الخلق الذين كانوا في الدنيا بأجسادهم وأرواحهم نفسها؛ حتى يحصل لها النعيم أو العذاب في الآخرة، ولا يخلق أجساداً جديدة، بل يعذب أو ينعم نفس تلك الأجساد التي كانت موجودة في الدنيا، ولهذا أخبر الله عز وجل عن ذلك بقوله:{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ}[ق:٤] أي: فنحن نعيده، فنستخرج تلك الذرات التي دخلت التراب حتى ترجع كل ذرة إلى مكانها.
إذاً: فالبعث ليس إعادة أجسام جديدة لم تكن موجودة في الدنيا، بل يعيد نفس الأجسام التي كانت في الدنيا، وقد جاء في القرآن والسنة أدلة تدل على هذا المعنى، وذلك في قصة إبراهيم التي ذكرها الله في القرآن، وذلك حينما طلب أن يريه الله كيف يحيي الموتى، قال الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا}[البقرة:٢٦٠] قيل في معنى ذلك: إنه أخذ أربعة من الطيور فذبحها وقطعها وخلط لحمها حتى صارت كتلة واحدة، ثم قسمها إلى أربعة أقسام، فجعل على كل جبل منهن جزءاً، ثم دعاهن، فانطلقت هذه القطع حتى وقعت كل قطعة في المكان الذي خرجت منه، فعاد الجسم كما كان، فهذه كيفية إحياء الموت، أي أن الأجزاء المتفرقة تعود إلى أماكنها، ومثل ذلك الحديث الذي ذكر فيه أن رجلاً من بني إسرائيل أوصى بنيه فقال:(إذا أنا مت فأحرقوني، ثم ذروا رمادي في البر والبحر، فلئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحد من العالمين) وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى أمر البحر بأن يخرج ما فيه، والبر أن يخرج ما فيه، حتى عادت كل ذرة من الذرات إلى مكانها وعاد الجسم كما كان، فهذا هو الخلق الثاني، فالله عز وجل يعيد الخلق الثاني كالخلق الأول، قال الله تعالى:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}[الأنبياء:١٠٤].
ولهذا فالناس يخرجون من قبورهم حفاة عراة غرلاً، أي: غير مختونين، فكما كانوا في أول خلقهم غير مختونين فإنهم يكونون في الآخرة غير مختونين، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}[الأنبياء:١٠٤] حتى القطعة التي قطعت فإنها تعود كما كانت أولاً، وقد قالت عائشة رضي الله عنها (الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض! فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة! الأمر أعظم من ذلك) أي أنهم لا يفكرون في العورات من شدة ما عندهم من الهول والفزع والخوف من الله سبحانه وتعالى، ثم إن هذا الأجزاء التي تجمع وتعود كما كانت هي التي كانت في الدنيا، فهي التي أحسنت وأساءت، فيكون العذاب والنعيم على الروح والجسد جميعاً؛ لأن الإساءة حصلت من مجموع الروح والجسد، والإحسان حصل من مجموع الروح والجسد، فالجزاء يكون لمجموع الروح والجسد، والروح تنعم متصلة بالبدن ومنفصلة عنه، وقد جاء في الحديث أن:(نسمة المؤمن طائر يعلق في الجنة، يأكل من أشجارها وثمارها) فتكون على صورة طير، ولها اتصال بالبدن والجسد، وكل ذلك من الأمور التي لا نعلم كيفيتها، والله عز وجل على كل شيء قدير، ومما يدل على أن هذا الخلق هو الذي كان في الدنيا وأنه ينعم ويعذب ما جاء في القرآن في قوله تعالى:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ}[يس:٦٥] أي: التي كانت في الدنيا.
ولو كانت أجساماً جديدة لم يكن عندها شهادة، وإنما تشهد تلك الأجسام التي كانت في الدنيا، وقد جاء في الحديث:(أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم العيد غدا من طريق، ورجع من طريق آخر)، وفسر ذلك بعدة تفسيرات، من أوضحها أن يشهد له الطريقان، فالجسم الذي وقع منه هذا المشي وهذا العمل هو الذي تحصل له الشهادة من الأرض، وفسر قوله تعالى:{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}[الزلزلة:٤] أنها تشهد على ما حصل على ظهرها من خير وشر.
إذاً: فهذه الآيات التي فيها أن الله تعالى يختم على الأفواه فتتكلم الأيدي والأرجل بما عمل الإنسان فيها توضيح وبيان أن الذي يكون في الآخرة هو نفس الجسد الذي كان في الدنيا وليس جسداً جديداً، ولذلك لم يستغرب الكفار المنكرون للبعث من وجود خلق جديد، وإنما استنكروا واستغربوا من أن ذلك الجسم المتفرق سيجتمع، ولهذا قال الله عز وجل:{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}[ق:٢ - ٣] أي: كيف يكون هذا؟ فقال الله عز وجل:{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ}[ق:٤] أي: فنحن سنعيد هذه الذرات التي اختلط بالتراب ونجمعها، فتعود كما كانت، وهذا هو الذي استبعده الكفار.