للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم))]

ما جاء في هذا الحديث من الأمر بتغيير المنكر لا ينافي ما جاء في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:١٠٥].

فلا يقال: أن بين الآية والحديث تعارض، فالآية فيها: أن الإنسان عليه نفسه، وأنه لا يضره من ضل إذا اهتدى، والحديث يقول: (من رأى منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه).

والمعنى: أنكم إذا أديتم ما عليكم وما هو مطلوب منكم فقد برئت ذمتكم؛ لأنكم قمتم بما هو واجب، والاستفادة والهداية هي بيد الله، والإنسان عليه أن يفعل الأسباب، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإن حصل المقصود والمطلوب فهذا هو الذي نريده، وإن لم يحصل فإن الإنسان يكون قد أدى ما عليه، وبرئت ذمته.

وعلى هذا فيكون معنى الآية: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:١٠٥].

أي: إذا قمتم بما هو مطلوب منكم، فقد أديتم ما عليكم ولا يضركم بعد ذلك ضلال من ضل إذا اهتديتم، قالوا: وفي قوله عز وجل: ((إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) دليل على هذا؛ لأن المهتدي لا يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن من الاهتداء أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فتكون الآية هي نفسها دليل على أن الإنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن الإنسان إذا أدى ما عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم تحصل الاستفادة بعد ذلك فلا يضره ضلال من ضل؛ لأنه أدى ما عليه، وأرشد إلى ترك الضلال، والأخذ بسبل الهداية، فإذا لم تنفع الموعظة، ولا ينفع التذكير، ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحينها يكون المرء قد أدى ما عليه، وليس عليه بعد ذلك من حرج، وإنما يكون عليه الإثم إذا لم يكن أدى ما عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الحاصل: أن هذا حديث عظيم مشتمل على تغيير المنكر، وتفاوت الناس ودرجاتهم فيه، وأنهم ليسوا على درجة واحدة، وأن كل من قدر على درجة منها تعيّن عليه الإتيان بذلك، وليس له أن يترك ما أوجب الله تعالى عليه، وإلا فإنه يكون آثماً إذا ترك ما هو قادر عليه من التغيير باليد، وهو أعلى شيء، ثم التغيير باللسان الذي يليه.

ولشيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان عند هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:١٠٥] تحقيقات في مباحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسائل المتعلقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نذكرها بالنص لأهميتها: قال الشيخ محمد الأمين رحمه الله تعالى: [قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:١٠٥].

قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور، وذلك في قوله: ((إِذَا اهْتَدَيْتُمْ))؛ لأن من ترك الأمر بالمعروف لم يهتد، وممن قال بهذا حذيفة وسعيد بن المسيب كما نقله عنهما الألوسي في تفسيره وابن جرير ونقله القرطبي عن سعيد بن المسيب وأبي عبيد القاسم بن سلام ونقل نحوه ابن جرير عن جماعة من الصحابة، منهم: ابن عمر وابن مسعود فمن العلماء من قال: ((إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) أي: أمرتم فلم يسمع منكم، ومنهم من قال: يدخل الأمر بالمعروف في المراد بالاهتداء في الآية، وهو ظاهر جداً، ولا ينبغي العدول عنه لمنصف.

ومما يدل على أن تارك الأمر بالمعروف غير مهتد: أن الله تعالى أقسم أنه في خسر، بقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:١ - ٣].

فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد أداء الواجب لا يضر الآمر ضلال من ضل، وقد دلت الآيات كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:٢٥] والأحاديث على أن الناس إن لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر عمهم الله بعذاب من عنده؛ فمن ذلك ما خرجه الشيخان في صحيحيهما عن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (دخل عليها فزعاً مرعوباً يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وحلّق بأصبعيه الإبهام والتي تليها- فقلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم.

إذا كثر الخبث).

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) أخرجه البخاري والترمذي.

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (يا أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:١٠٥] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:٧٨ - ٨١]، ثم قال: كلا والله! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم ليلعننكم كما لعنهم) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن، وهذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم ((عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)) [المائدة:٧٨] فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً، فقال: لا والذي نفسي بيده حتى يأطروهم على الحق أطراً).

ومعنى تأطروهم أي: تعطفوهم، ومعنى تقصرونه: تحبسونه، والأحاديث في الباب كثيرة جداً، وفيها الدلالة الواضحة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في قوله: ((إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ويؤيده كثرة الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:١٠٤] وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} [آل عمران:١١٠] وقوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:٧٨ - ٧٩].

وقوله: {وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:٢٩] وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:٩٤].

وقوله: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:١٦٥].

وقوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:٢٥].

والتحقيق في معناها: أن المراد بتلك الفتنة التي تعم الظالم وغيره، هي: أن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بالعذاب صالحهم وطالحهم، وبه فسرها جم