ثم يأتي الله لفصل القضاء، ثم يكون الحساب، ويكون الميزان فتوزن الأعمال، ثم يذهبون إلى الجنة والنار، والنار تكون قبل الجنة، فالوصول إلى الجنة لا يكون إلا عن طريق النار؛ لأن الجسر منصوب على متن جهنم، والذي يذهب إلى الجنة يمر بهذا الجسر الذي فوق النار، ومن شاء الله عز وجل أن يقع في النار وقع وخطفته الكلاليب التي على جوانبها، ومن وفقه الله عز وجل تجاوز ذلك، والناس يمرون على الصراط على قدر أعمالهم؛ فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاود الخيل، ومنهم من يزحف زحفاً، ودعوى الرسل يومئذٍ:(اللهم! سلم سلم) وهذه الشفاعة فيها دليل على أن من استحق النار يشفع له بأن لا يدخلها، فقولهم:(اللهم! سلم سلم) معناها أن يستحق النار يدعى له أن يسلم منها، فهي شفاعة لمن استحق النار أن يسلم منها، وهذه من أنواع الشفاعة.
ويقول الله عز وجل:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}[مريم:٧١] والورود هو المرور على الصراط؛ لأن من مر على الصراط يكون قد ورد النار؛ لأنه مر في سمائها، لكن ذلك يكون بتفاوت السرعة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي ذكرناه سابقاً.
فيقع في النار من يقع، ومن يتجاوز النار فإنه يكون من أهل الجنة، والذين يتجاوزونها يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص من بعضهم لبعض، وهذا الاقتصاص لا يترتب عليه عذاب؛ لأنهم قد تجاوزا النار، وإنما يترتب عليه التفاوت في الدرجات في الجنة، فيؤخذ من هذا لهذا، ومن هذا لهذا، ثم يكون الناس في الجنة على الدرجات التي انتهوا إليها وليس عليهم حقوق للآخرين، فالإيمان باليوم الآخر يدخل تحته كل ما يكون بعد الموت، وما يكون في الموقف، وما يكون في الحساب، وما يكون عند الميزان من وزن الأعمال وتطاير الصحف باليمين والشمال، وكذلك الحوض الذي يكون في عرصات القيامة، فمن يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً، ثم بعد ذلك الذهاب إلى الجنة، والوصول إلى الجنة إنما هو عن طريق النار، فيقع في النار من يقع، ويسلم منها من يسلم، ثم يكون الناس في الجنة أو في النار، ومن دخل الجنة فإنه يبقى فيها أبد الآباد وليس بمخرج منها، كما قال الله عز وجل:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}[الحجر:٤٧ - ٤٨] فقال تعالى: ((وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ))، ولم يقل:(خارجين) لأنهم لا يفكرون في الخروج، وإنما الذي يخشى منه أن يُخرجوا، فجاء التعبير ((وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ))، وأما أهل النار فقد قال الله تعالى عنهم:{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا}[المائدة:٣٧]؛ لأنهم يبغون الخروج، ولكن لا يكون لهم ذلك، وهذا في الكفار، وأما من كان من أهل الإيمان ودخل النار فإنه يعذب فيها على مقدار معصيته، ولكنه لا بد من أن يخرج منها ويدخل الجنة، ولا يبقى في النار إلا الكفار الذين هم أهلها، والذين لا سبيل لهم إلى الخروج منها، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله في كتابه (الوابل الطيب): الدور ثلاث: داران باقيتان لا تفنيان ولا تبيدان: دار الطيب المحض، وهي الجنة، ودار الخبث المحض، وهي النار التي فيها الكفار، ودار جمعت بين خبث وطيب، وهي النار التي فيها العصاة وأصحاب الكبائر، فإن هذه يخرج منها من كان فيها ويذهب إلى الجنة، وتبقى ليس فيها أحد من العصاة، وعلى هذا فتكون الجنة باقية إلى غير نهاية، والنار التي فيها الكفار باقية إلى غير نهاية.
والحاصل أن الإيمان باليوم الآخر يدخل فيه كل ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أخبار عن هذه الأمور المغيبة، من حين الموت إلى دخول الجنة والنار والبقاء فيهما إلى غير نهاية، فهذا هو الإيمان باليوم الآخر الذي هو أحد أركان الإيمان الستة.