أما حديث وابصة بن معبد فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: النبي صلى الله عليه وسلم: (جئت تسأل عن البر؟) والنبي صلى الله عليه وسلم قال له ذلك قبل أن يبدي وابصة ما عنده وسؤاله عما يريد، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك لكونه علم منه اهتمامه بهذا الموضوع وعنايته بهذا الأمر، وقد يكون سبق أن سأله في هذا الموضوع، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال له:(جئت تسأل عن البر؟) أي: أنه جاء يسأل عن البر والإثم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له:(استفت قلبك، البر ما اطمأنت له النفس واطمأن إليه القلب).
فقوله:(استفت قلبك) هذا إنما يكون في حق من يكون من المؤمنين المتقين، مثل: أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرهم ممن يكون من أهل الإيمان، وأما إذا كان من أهل الفجور والعصيان فهذا يفتيه قلبه بارتكاب الأمور القبيحة الواضحة التي لا خفاء فيها ولا لبس، فضلاً عن الأمور المشتبهة التي يحتاج فيها إلى استفتاء القلب.
فقوله:(استفت قلبك) يعني: أن الإنسان قد يطمئن إلى شيء ويقدم عليه وهو مطمئن، كالحلال البين والحرام البين، فإن ذلك يكون واضحاً لا يتردد فيه الإنسان، ومن الأشياء ما يكون محلاً للتردد، مثل إنسان يسأل عن قبول الهدية من شخص أكثر ماله حرام، فإنه لو أفتاه مفت بإباحته فإن على الإنسان أن يرجع إلى قلبه وإلى ما فيه من التردد وإلى ما فيه من عدم الراحة وإلى ما فيه من عدم الطمأنينة، فلو أفتاه الناس وأفتوه وقلبه غير مطمئن فإنه لا يقدم على ذلك، وهذا في الذين يفتون بغير علم أو يفتون في أمور ليس عليها دليل بين، أما إذا كان إفتاء مبنياً على أدلة بينة على آيات من كتاب الله وأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا ليس للإنسان أن يتردد فيه، بل على كل مسلم أن ينصاع لما جاء عن الله وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، لكن حيث يكون الشيء من الأمور المشتبهة فإن هذا هو الذي يكون فيه استفتاء القلب وإن أفتي، فإن أفتاه من يفتيه ونفسه غير مطمئنة فطريق السلامة من ذلك أنه لا يقدم على هذا الشيء الذي فيه عدم اطمئنانه.
قوله:(البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب) لا أعلم فرقاً بين هاتين الجملتين: اطمئنان النفس، واطمئنان القلب، ولم يتضح لي فرق بين اطمئنان النفس واطمئنان القلب إلا أن يكون من قبيل التأكيد مع التغاير في الألفاظ واتحاد المعنى.