لما وعظهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الموعظة، وكانوا رضي الله عنهم وأرضاهم حريصين على كل خير والسباقين إلى كل خير قالوا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا.
أي: كأنهم فهموا أن أجله قريب صلى الله عليه وسلم، فطلبوا منه الوصية الجامعة المفيدة التي يعتمدون عليها ويعولون عليها، ومن المعلوم أن الوصية التي يكون معها ذكر التوديع أو فيها ما يشير إلى التوديع لا شك أنه يهتم بها ويحرص عليها ويحرص على استيعابها وعلى تعقلها وفهمها.
وقد يكون حصل في هذه الموعظة كلام يشعر بالتوديع قد يفهمه من يفهمه ويخفى على من يخفى عليه، وذلك مثل ما حصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم وعظ أصحابه فقال:(إن عبداً خيره الله بين ما عنده وبين الحياة الدنيا والبقاء فيها فاختار ما عند الله) فكثير من الصحابة لم يتنبهوا للمقصود من ذلك وأبو بكر رضي الله عنه فهم ذلك وجعل يبكي، وفهم من ذلك أنه قرب أجله صلى الله عليه وسلم، وأنه هو العبد المخير، وأنه قد اختار لقاء الله عز وجل.
وقد تكون الموعظة مشتملة على شيء يشعر بالتوديع، مثل حجة الوداع فإنما سميت حجة الوداع لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء عنه ما يشير أو ما يدل على ذلك؛ لأنه قال:(خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ولهذا قيل لها: حجة الوداع.
وكون أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يطلبون الوصية يدل على كمال فضلهم وعلى كمال نبلهم وحرصهم على معرفة الحق والهدى، وحرصهم على تحصيل الوصايا العظيمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.