للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حاجة العباد إلى هداية الله تعالى]

الجملة الثانية قوله: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم).

الله عز وجل هو الذي يتفضل بالهداية على من شاء من عباده، ومن خذله الله عز وجل فإنه لا يحصل له إلا الضلال، ومعلوم أن كل إنسان يقدم على ما ينفعه ويقدم على ما يضره بمشيئته وإرادته، فالمهتدي يقدم على ما فيه هدايته بمشيئته وإرادته، والضال يقدم على ما فيه ضلاله بمشيئته وإرادته، وهذا الذي حصل من هذا المهتدي وهذا الضال مطابق لما قدره الله تعالى وشاءه، ولا يخرج شيء عن مشيئته سبحانه وتعالى، وكل ما يقع في الوجود من خير وشر وهداية وضلال فإنما هو بمشيئة الله عز وجل ثم بمشيئة العباد التابعة لمشيئة الله عز وجل، أي: أن العباد لهم إرادة ومشيئة، ويقدمون على ما ينفعهم وعلى ما يضرهم، ولكن إقدامهم على ما ينفهم وما يضرهم لا يخرج عن مشيئة الله وإرادته، ولا يقع في ملك الله شيء ما شاءه الله ولا أراده، فلا يقع في ملكه إلا ما قد شاءه وأراده، كما قال الله عز وجل: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:٢٨] فأثبت أن لهم مشيئة، وأن الإنسان يشاء أن يستقيم ويشاء أن ينحرف.

ثم قال بعد ذلك: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:٢٩]، يعني: إنكم لا تشاءون شيئاً ولا يقع منكم شيء إلا وقد شاءه الله سبحانه وتعالى، ولا يقع من العباد شيء لم يشأه الله تعالى، كما تقول القدرية: إن العباد يخلقون أفعالهم.

بل الله عز وجل هو الخالق لكل شيء، خالق العباد، وخالق أفعال العباد، وخالق الذوات، وخالق الصفات سبحانه وتعالى، فكل ما يقع في الوجود فهو من خلقه وإيجاده، وقد وقع بمشيئته وإرادته.

فمن حصل له الضلال الذي هو ضد الهدى فقد حصل بمشيئة العبد وإرادته، والله سبحانه وتعالى قد كتب ذلك وقدر ذلك، ومن حصلت له الهداية فقد حصلت بمشيئته وإرادته، والله تعالى قدر ذلك، فهو المتفضل بالهداية أولاً وآخراً، هو الذي تفضل بها حيث هيأ الأسباب ووفق لحصولها ووجودها، فالفضل لله عز وجل أولاً وآخراً في كل هداية.

وأما الضلال فإنه يقع من العباد بمشيئتهم وإرادتهم، والله عز وجل قدر ذلك وقضاه، وهو خذلان لذلك الذي حصل منه، والهداية التي حصلت للعبد هي بفضل من الله عز وجل وإحسان.

يقول الحافظ ابن رجب: قد يظن بعض الناس أن في هذا الحديث معارضة مع الحديث القدسي الذي يقول الله عز وجل فيه: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) فالله عز وجل خلق الناس مفطورين على الإسلام، ولكن هناك من يصرف عن هذه الفطرة، وهناك من يثبت على هذه الفطرة، فمن الناس من يأتي مؤيداً ومثبتاً لهذه الفطرة، وهو الذي يكون مهتدياً وينشئ أولاده على الهداية، ومنهم من يكون منحرفاً فيحرف أولاده عن هذه الفطرة، وذلك بصرفهم عنها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، ومعنى ذلك أن هذه الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها من الناس من يأتي مثبتاً لها، وهو الذي كان على هدى وسداد، فيكون عوناً لأولاده على الهداية، ومنهم من يكون منحرفاً عن هذه الفطرة، فيسعى إلى حرف وصرف أولاده عنها، فينقلهم من هذه الفطرة إلى أن يكونوا يهوداً أو نصارى أو مجوساً، أو إلى غير ذلك من ملل الكفر المختلفة.

والضلال يراد به عدم العلم أيضاً، فكما أنه يراد به الغواية وحصول الغواية فإنه يراد به عدم العلم، والله عز وجل خلق الناس وأخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً، ثم علمهم وأعطاهم العلم، وما جاء في القرآن من قول الله عز وجل: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:٧] فمعنى ذلك أنه كان غير عالمٍ بهذا الوحي الذي أوحى الله تعالى إليه وهذا العلم الذي أعطاه الله إياه، فكان قبل ذلك غير عالمٍ به، هذا هو المقصود بالضلال الذي كان موجوداً فهداه الله عز وجل إلى هذا الوحي والنور وأعطاه إياه، كما قال الله عز وجل: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:٥٢] يعني: ما كان عنده هذا الشيء، ثم أعطاه الله سبحانه وتعالى إياه.

فإذاً: عرفنا أنه يأتي الضلال بمعنى الغواية ويأتي بمعنى الجهل وعدم العلم، ثم إن الله عز وجل يعطي العلم ويوفق من شاء لأن يعطيه العلم، والضلال الذي أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو عدم العلم بهذه الأمور التي علمه الله تعالى إياها وهذا الوحي الذي أوح الله تعالى به إليه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

وفي قوله: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته) بيان أن الله سبحانه وتعالى يتفضل على من شاء بالهداية، ولهذا قال: (إلا من هديته) ومن هداه الله عز وجل فقد هداه بفضله وإحسانه وتفضله عليه بهذه الهداية.

لقد أمر سبحانه بطلب الهداية فقال: (فاستهدوني)، أي: اطلبوا مني الهداية.

وفي هذا أمر بطلب الهداية، وأن الإنسان يسأل الله عز وجل الهداية، وقد جاء في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦] وحاجة الناس إلى الهداية أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب حاجتهم إليهما ليحيا الإنسان هذه الحياة الدنيا، وأما الهداية فهي التي تنبني عليها الحياة الآخرة المستمرة الدائمة.

فالهداية هي التي بها الحياة الباقية في النعيم، وأما الحياة الدنيوية فغذاؤها وقوامها هو الطعام والشراب، وبذلك تكون الحياة، وبدونهما يحصل الموت ولا تحصل الحياة، وأما الحياة الباقية فغذاؤها إنما هو بالهداية إلى الصراط المستقيم.

وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم يتضمن شيئين: الأول: الثبات على ما قد حصل من الهداية.

الثاني: طلب المزيد من الهداية، فيطلب الإنسان من ربه بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦] أن يثبته على ما حصل له من الهداية، وأن يزيده هدًى إلى هداه.