الحديث يدل بعمومه على أن أي عمل يخالف السنة، ويكون مبنياً على بدعة؛ لا عبرة به ولو كان قصد صاحبه حسناً، فلا يكفي في العمل أن يكون قصد صاحبه حسناً، بل لا بد مع حسن القصد أن يكون على وفق السنة، وإلا كان مردوداً؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:(من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد).
وبيان ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما فصل ولا قال: من كان قصده حسناً فحكمه كذا، ومن ليس قصده حسناً فحكمه كذا، بل عمم وأطلق فقال:(من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وكثير من الناس يقدمون على البدع وقصدهم حسن، ولكن حيل بينهم وبين التوفيق وصرفوا عنه، إذ ليس كل من يكون قصده حسناً يكون عمله مقبولاً، بل لا بد من توافر شرط القبول بأن يكون العمل على وفق السنة، وقد جاء في السنة ما يدل على ذلك: وذلك أن أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح أضحيته قبل صلاة العيد، وكان يريد من وراء ذبحها في هذا الوقت أن تطبخ، ويكون اللحم عند الفراغ من صلاة العيد جاهزاً، فتكون أضحيته أول ما يأكله الناس وهم بحاجة إلى الطعام واللحم، فقصده طيب؛ لأنه يريد أن يكون أسبق من غيره في تقديم الطعام للمحتاجين، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قال له:(شاتك شاة لحم) يعني: ليست أضحية؛ لأنها لم تقع على وفق السنة، والعمل لا بد في اعتباره أن يكون على وفق السنة، فإذا ذبحت قبل صلاة العيد فمعناه أنها ذبحت في غير وقت الذبح، فلا تكون أضحية، بل تكون شاة لحم، أي من جنس الذبائح التي يذبحها الناس ليأكلوا اللحم، ولا يعتبر ذبحها أضحية وقربة وطاعة؛ لأن الذبح إنما يبدأ بعد صلاة العيد، ولا يكون قبل صلاة العيد؛ ولهذا روي أن صلاة العيد في الأضحى تعجل بعد دخول الوقت ليتسع للناس وقت الذبح، وصلاة عيد الفطر تؤخر شيئاً بعد دخول الوقت ليتسع للناس وقت إخراج زكاة الفطر؛ لأن أفضل وقت لإخراج زكاة الفطر يوم العيد قبل الصلاة، فإذا أخرت الصلاة شيئاً يسيراً بعد دخول وقتها اتسع للناس وقت إيتاء زكاة الفطر.
وقد نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري عند شرح هذا الحديث عن بعض أهل العلم أنه قال: وفي هذا دليل على أن العمل لا يعتبر إلا إذا كان موافقاً للشرع، ولا يكفي حسن قصد الفاعل.
يعني: إذا كان قصد صاحبه حسناً لا يكفي لقبوله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهذا الصحابي:(شاتك شاة لحم)، ولم يعتبر حسن قصده.
ومما يدل على ذلك أيضاً: أن أبا عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن أناساً متحلقون في المسجد، وبأيديهم حصى، وفي كل حلقة شخص يقول لهم: كبروا مائة، هللوا مائة، سبحوا مائة، احمدوا مائة، فإذا قال: كبروا مائة، صاروا يعدون بالحصى: الله أكبر، الله أكبر، مائة، ثم يقول: هللوا مائة، فيقولون: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ويعدون بالحصى مائة، ثم يقول: سبحوا، فيقولون: سبحان الله، سبحان الله، ويعدون بالحصى مائة، وهكذا.
فوقف على رءوسهم أبو عبد الرحمن رضي الله عنه وقال: ما هذا يا هؤلاء؟! عدوا سيئاتكم، فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، إما أن تكونوا على طريقة أهدى مما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أو أنكم مفتتحو باب ضلالة! يعني: إما أنكم أحسن من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وعندكم طريقة أحسن من طريقة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة، ففهموا أن الطريقة الأولى لا سبيل لهم إليها، ولا يمكن أن يكونوا أحسن من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقيت الثانية، وهي أنهم مفتتحو باب ضلالة، فقالوا: سبحان الله! يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، فقال رضي الله عنه: وكم من مريد للخير لم يصبه، كم من مريد للخير لم يصبه، كم من مريد للخير لم يصبه.
قال الإمام مالك: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ومعلوم أن أولها -وهم الصحابة- إنما صلحوا باتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، والعمل وفقاً لسنته، مع حذرهم من البدع، ولا يمكن لغيرهم أن يصلح إلا بسلوك هذا المسلك الذي سلكوه، والمنهج القويم الذي طرقوه.