[أشراط الساعة]
وللساعة أشراط، فبعض أشراطها تكون قريبة من قيامها، وبعض الأشراط تكون قبل ذلك، وهذه الأشراط التي قبل ذلك منها ما قد مضى، ومنها ما لم يأت، وكل هذا قبل أن تأتي العلامات الكبرى التي تكون بين يديها، مثل طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم، وكذلك خروج المهدي، فهذه من الأشراط التي هي قريبة من قيام الساعة.
وأما العلامات الأخرى فهناك علامات أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها ما قد مضى، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصري)، وقد ذكر في كتب التاريخ أنه في سنة ستمائة وأربع وخمسين خرجت هذه النار، وحصل هذا الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك قبل سقوط بغداد بسنتين على أيدي التتار، فقد كان سقوط بغداد على أيدي التتار سنة ستمائة وست وخمسين، ذكر ذلك ابن كثير وغيره.
وهناك أمور أخرى أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم لم تقع إلى الآن، كقوله في الحديث: (لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، فيقتتل عليه الناس، فينجو من كل ألف رجل واحد، ويهلك تسعمائة وتسعة وتسعون).
وهؤلاء المقتتلون يعلمون بأن النجاة تكون لواحد من ألف، وأن الهلاك سيكون حليف تسعمائة وتسعة وتسعين، ومع ذلك يقتتلون ويرجو كل واحد منهم أن يكون هو ذلك الفائز الناجي، وهذا من شدة الحرص على الدنيا في ذلك الوقت، وهذا الأمر لم يحصل حتى الآن، وأما تفسير بعض الناس لذلك الجبل من ذهب بالبترول الذي في العراق فهو كلام باطل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفه بأنه جبل من ذهب، والبترول ليس بذهب، فالذهب -كما هو معروف- معدن من المعادن، وهو مع الفضة يكونان العملة التي يتعامل بها الناس، والذهب هو أنفس هذين النوعين.
وهذا كله قبل أن تأتي العلامات الكبرى التي تكون بين يدي الساعة.
ونسمع بين الحين والآخر الناس يتحدثون عن خروج المهدي، وبعض هؤلاء المدّعين لذلك من المجانين وأشباه المجانين، فيزعم بعض الناس أنه المهدي، وهذا كله من الخطأ البين الواضح.
وقد حصل هذا في أزمان مختلفة من التاريخ، وآخر شيء حصل ووقعت فيه فتنة هلاك وقتل ما كان في سنة ١٤٠٠هـ في الحرم المكي، وكل ذلك بسبب هذا السفه، وهو ادعاء المهدوية، فتكون هناك عواطف وحماسة مبنية على غير أساس، وقد يبنى ذلك على منامات ورؤى تحصل من الشيطان ليزج بهؤلاء إلى ما يكون فيه هلاكهم وهلاك أتباعهم.
وأذكر أنه قبل أن تحصل الفتنة التي وقعت في الحرم في غرة محرم سنة ١٤٠٠هـ كان الناس يتحدثون قبل ذلك عن أن المهدي سيخرج، وأذكر أنه جاء إلي طالب لا أعرفه وأنا في مكتبة الدراسات العليا، وقال: إنهم يقولون: إن المهدي سيخرج.
وكانوا يذكرون أن قحطان محمد بن عبد الله القحطاني هو المهدي، وأنه سيخرج.
وهناك كتاب اسمه (كتاب المتألهين والمتنبئين والمتمهدين) فقلت: إنه سيضاف إلى هذا الكتاب إن خرج.
ثم إنه خرج فصار ممن ذكر في هذا الكتاب، ويحصل بين وقت وآخر محاولة من بعض الناس إدعاء المهدوية، وكل هذا سفه من بعض العقول.
وأذكر أنه مرة من المرات جاءني كتاب من رجل في لندن، وقال: إني المهدي، وإنني أرى أن علامات المهدي موجودة فيّ، فماذا تقترح علي؟ وبماذا تشير علي؟ فقلت له: لا يسمع أحد أبداً هذا الكلام منك حتى تموت؛ لأنك إن حدثت به أحداً فستتهم بضعف في عقلك، فأرى من الخير لك أن تترك هذا الأمر، وأن لا يخطر منك على بال، فكتبت له هذا الكتاب، ولا أدري ما حصل له، ولعله استفاد من هذا الإرشاد.
فالحاصل أن الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم حق، ولكنه سيقع في الوقت الذي يشاء الله عز وجل أن يقع فيه، وأما تلك الأمور التي تحصل بين حين وآخر ممن يدعي أنه المهدي، أو يدعى فيه أنه المهدي فكل هذه الأمور لا تأتي بخير، وإنما تأتي بالضرر، وتدل على سفه من حصلت منه، وتدل على قلة عقله وبصيرته.
فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أخبر بأمور عديدة، والإنسان إذا قرأ الكتب التي رتبت على الحروف، كالجامع الصغير، أو صحيح الجامع الصغير فإنه يجد عدة أحاديث كلها مبدوءة بـ: (لا تقوم الساعة حتى يحصل كذا وكذا).
فمن هذه الأمور ما حصل، ومنها مالم يحصل، والمسلم يصدق بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لا يجر ولا يسوق الأحاديث أو النصوص التي وردت إلى شيء لا يصلح أن تساق إليه، أو يفسرها بشيء وقع على أن اعتبار أن هذا هو ما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك كالمثال الذي ذكرته في قصة الكنز الذي في الفرات، وتفسيره بالبترول، فكل هذا من التخرص، وهو كلام على غير هدى وبصيرة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن أماراتها أخبره بأمارتين، أخبره بقوله صلى الله عليه وسلم: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)، وكان عليه الصلاة والسلام يُسأل أسئلة متعددة عن الساعة، فكان أحياناً يجيب بشيء من أماراتها، وأحياناً يجيب بما هو أهم من السؤال عن الساعة.
فمما سئل عنه وكان الجواب بلفت النظر إلى ما هو أهم من المسئول عنه ذلك الحديث الذي فيه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: وماذا أعددت لها)، أي: أن الساعة قائمة، وكل آت قريب، ولكن ما الذي أعددته لنفسك إذا قامت الساعة؟ فالسائل صدقه في الجواب (فقال: أعددت لها حب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب)، فصرفه عن السؤال، ولفت نظره إلى الأمر الذي ينبغي أن يشتغل به، وهو أن يستعد للساعة وللموت، فالإنسان لا يجد أمامه إلا ما قدم، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٧ - ٨].
وهذا من كمال بيانه ونصحه عليه الصلاة والسلام لهذا السائل الذي سأله.
ومن ذلك -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً بين أصحابه يحدثهم، فجاء رجل ووقف على الحلقة وقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فأعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، واستمر فيما هو فيه من تحديث أصحابه، فلما فرغ قال: (أين السائل عن الساعة؟ فقال: أنا يا رسول الله.
فقال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة.
قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسَّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
قال الحافظ ابن حجر وهو يتكلم على استمرار الرسول صلى الله عليه وسلم في الكلام مع أصحابه، وإعراضه عن هذا السائل، وفي هذا دليل على أن أخذ العلم بالسبق.
أي أن الذي كان الحديث معه أولى بالتحديث من شخص يأتي بعده ويقطع الحديث.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة ابن جرير الطبري في (لسان الميزان) أن ابن جرير الطبري رحمه الله كان يجلس في مجلس العلم، فحضر مجلسه مرة من المرات ابنُ الوزير ابن الفرات، فتوقف الذي له الدور والنوبة هيبة من ابن الوزير، وظن أن ابن جرير سيقدم ابن الوزير، فقال له ابن جرير: إذا كانت النوبة لك فابدأ ولا تعبأ بدجلة ولا بالفرات.
يعني بالفرات ابن الفرات، ومعنى ذلك أن صاحب السبق والأولية أولى من غيره.
وهذا هو الذي يسمونه في هذا الزمن الطوابير، أي: أن يكون الناس بعضهم وراء بعض، فهذا موجود في الإسلام قبل أن يوجد في هذا الزمان عند المسلمين أو عند الكفار.