[المشتبهات]
القسم الثالث: المشتبهات التي لا يتضح كونها من الحلال البين أو من الحرام البين، وإنما هي واقعة بين هذا وهذا، ويحتمل أن تكون من الحلال أو الحرام.
فما اشتبه ولم يتضح فيه الدليل والحكم الشرعي فإن الورع اجتنابه وعدم الوقوع فيه، وأما إذا اتضح حله أو حرمته بالدليل فعند ذلك يكون من الشيء الذي يشتبه على بعض الناس أو على كثير من الناس ويعلمه بعض الناس، لكن حيث لا يتضح الدليل على حرمة الشيء أو على إباحته وحله فإن الورع يكون بتركه، كما جاء في الحديث الآخر: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) فما دام أنه متردد بين أن يكون حلالاً وأن يكون حراماً فالاحتياط والورع للإنسان أن يتركه.
وأما إذا كان من الأمور التي فيها خفاء بحيث يخفى الدليل على بعض الناس ويعلمه بعضهم، فإن الحديث دل على أن الكثير من الناس لا يعلمها، ومفهوم ذلك أن بعض الناس يعلمها؛ لأن الدليل قد يكون فيها خفياً ولا يطلع عليه كل الناس، وليست مثل: بهيمة الأنعام، فمن المعلوم أنها حلال، وليست مثل: حرمة الخمر، حيث إن بيان حرمتها واضح، وإنما يكون الأمر متردداً بين الحل والحرمة، حيث يوجد في ذلك دليل يدل على الحل، ويخفى على بعض الناس مثل: لحوم الخيل، فما كل الناس يعلم أن لحوم الخيل حلال، وهذا الحكم يخفى على بعض الناس، وقد جاء في الحديث ما يدل على أنها حلال، لكنها ليست من الحلال البين عند كل أحد، وإنما هي من الحلال البين عند من عرف الدليل، لكن الإنسان الذي لم يبلغه الدليل ولم يعرف الحكم في المسألة ثم دار بين هذا وهذا فالاحتياط له بأن يترك ولا يقدم على ذلك الشيء المحتمل للحل والتحريم.
وأما إذا عرف الدليل على أن ذلك سائغ وليس بحرام فإنه يأخذ بالدليل، والذي لا يعرف هذا الدليل ولا يعرف شيئاً يدل على حل لحوم الخيل، ولا يدري هل ثبت أم لم يثبت، فإن الاحتياط والورع -كما جاء في الحديث- هو الترك وليس الإقدام على الفعل؛ لأن الإنسان إذا فعل، ذلك فيحتمل أن يكون قد فعل أمراً محرماً أو أن يكون فعل أمراً حلالاً، ولكنه إذا ترك ذلك سلم من أن يكون فعل أمراً محرماً.
قوله: (وبينهما أمور مشتبهات) يعني: مشتبهة في كونها من الحلال البين أو من الحرام البين، فهذه لا يعلمها كثير الناس وبعضهم يعلمها؛ لأن المفهوم معناه: أن بعض الناس يفهمها وقد يقف على الدليل الذي خفي على بعض الناس، فمن وقف على الدليل أخذ به، ومن لم يقف عليه وكان متردداً بين أن يكون حلالاً أو حراماً، فالاحتياط والمطلوب في حقه أن يتركه وألا يقدم عليه.
قوله: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس).
معنى ذلك: أن بعض الناس يعلمها، وهناك أمور أخرى تشتبه ولا يعلم الناس حقيقتها، مثل: ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه وجد تمرة وكان لا يدري هل هي من الصدقة أو من غير الصدقة، ولذلك تركها فلم يأكلها لأن آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحل لهم الصدقة، ومن المعلوم أن مثل هذا من علم الغيب الذي لا يطلع عليه إلا الله، فإذا وجد إنسان من أهل البيت تمرة وقعت في الطريق فلا يدري هل هي من الصدقة أم لا؟ فهذا لا يمكن الوصول إلى معرفته؛ لأنه شيء مجهول، لكن ما دام أن فيه احتمال ولم يتبين فيه لا هذا ولا هذا فالسلامة إنما تكون في الترك وليست في الفعل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).
بعد أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأقسام الثلاثة فرع الكلام الذي يأتي متعلقاً بالقسم الثالث وهو: الأمور المشتبهة، فبين عليه الصلاة والسلام حكم الأمور المشتبهة فقال: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه).
الشبهات أي: الأشياء المشتبهة التي لا يدرى أهي حلال أم حرام.
قوله: (فقد استبرأ لدينه وعرضه) أي: عمل على براءة نفسه من أن يكون عليه نقص في دينه، وأيضاً سلم من أن يعرض نفسه للوم الناس ووقوعهم في عرضه، والإنسان يحرص على أن تحصل له السلامة في دينه وعرضه، فدينه لا يكون فيه نقص، وعرضه لا ينال أحد منه ولا يتكلم فيه بسوء.
فالاستبراء للدين يتعلق بما بينه وبين الله.
والاستبراء للعرض يتعلق بما بينه وبين الناس.
قوله: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) أي: الذي يتساهل في الوقوع في أمر مشتبه لا يعلم حله وحرمته قد يؤدي به ذلك إلى أن يقع في الأمر المحرم.