[وجه تحريم الله الظلم على نفسه ونفيه عنه]
يقول الله عز وجل في هذا الحديث: (يا عبادي!) وهي أول هذه الجمل العشر (يا عبادي! إن حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
فالله عز وجل أخبر أنه حرم الظلم على نفسه، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وقد حرم الله على نفسه الظلم، فلا يقع منه الظلم أبداً، وهو منزه عنه، ونفي الظلم عن الله عز وجل هو من قبيل النفي الذي جاء في الكتاب والسنة، ومتضمن إثبات كمال ضد ذلك المنفي، فقد جاء في القرآن آيات عديدة فيها نفي الظلم عن الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:٤٩] وقال عز وجل: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:٤٦] وقال سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:١١٢].
كل هذه الآيات وأمثالها التي فيها نفي الظلم عن الله عز وجل تدل على إثبات كمال ضد ذلك المنفي الذي هو الظلم، أي: يدل على إثبات كمال عدله سبحانه وتعالى، وأن الله تعالى متصف بالعدل على التمام والكمال، وهكذا النفي في الكتاب والسنة عندما يأتي فهو نفي متضمن إثبات كمال، وليس كالنفي الذي يكون عند المتكلمين الذي يؤدي إلى نفي الموجود ويؤدي إلى أن الله تعالى لا وجود له، حيث يقولون: ليس بكذا وليس بكذا.
وكل صفة تنفى عندهم عن الله، فيئول الأمر إلى أنه لا يبقى وجود لله عز وجل، والنفي في الكتاب والسنة إنما يأتي متضمناً إثبات كمال لله سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:٤٩] لبيان كمال عدله، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [فاطر:٤٤] لبيان كمال قوته، وقوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:٣٨] لبيان كمال قدرته سبحانه وتعالى، يعني: ما مسنا من تعب ولا نصب ولا إعياء.
إذاً: فكل نفي جاء في الكتاب والسنة يدل على إثبات كمال ضده في حق الله سبحانه وتعالى، وهو ضد ذلك المنفي، فنفي العجز يدل على إثبات كمال القوة وكمال القدرة، ونفي الظلم يدل على إثبات كمال العدل.
فمنهج سلف هذه الأمة أنهم يثبتون لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا النفي الذي ينفونه عنه وفقاً لما جاء في الكتاب والسنة يدل على إثبات كمال الله سبحانه وتعالى، بخلاف أولئك الذين ينفون عن الله الصفات بحجة أنهم لو أثبتوا لكانوا مشبهين، وتصوروا أنه ليس هناك إثبات إلا مع التشبيه، ولهذا يقولون: ليس بكذا، وليس بكذا.
وينفون عنه جميع الصفات، فيئول الأمر إلى أن يكون لا وجود له؛ لأنه لا يتصور وجود ذات مجردة من جميع الصفات.
فالمتكلمون تصوروا أنه لا إثبات إلا مع تشبيه، ففروا من تشبيه بالموجودات حسب تصورهم الباطل، ووقعوا في تشبيه أسوأ منه، وهو التشبيه بالمعدومات، ولهذا يقول بعض أهل العلم: إن المعطل يعبد عدماً.
يعني: لا وجود لمعبوده.
وكما قال ابن عبد البر -رحمه الله- في كتابه (التمهيد): إن الذين ينفون الصفات عن الله عز وجل ويصفون المثبتة بأنهم مشبهة؛ لأنهم ما تصوروا إثباتاً إلا مع تشبيه.
ثم يقول ابن عبد البر: وهم عند من أقر بها نافون للمعبود.
أي أن المعطلة عند المقرين للصفات يعتبرون نافين للمعبود.
ثم إن الذهبي رحمه الله ذكر هذا النقل عن ابن عبد البر في كتابه (العلو للعلي الغفار)، وقال: صدق والله -أي: ابن عبد البر -، فإن الجهمية مثلهم كما قال حماد بن زيد: إن جماعة قالوا: في دارنا نخلة.
فقيل: ألها خوص؟ فقالوا: لا، ألها عسب؟ قالوا: لا، ألها قنو؟ قالوا: لا، ألها ساق؟ قالوا: لا، قالوا: إذاً ما في داركم نخلة؛ لأنه إذا كانت جميع صفات النخل منفية عنها فلا وجود لهذه النخلة التي نفيت عنها جميع الصفات.
فكذلك إذا نفيت الصفات عن الله عز وجل فمعنى ذلك أنه لا وجود له، وعلى هذا فنهج المتكلمين إنما هو نقص وإضافة نقص إلى الله عز وجل، بل إضافة العدم إليه وأنه لا وجود له، وأما أهل السنة والجماعة فهم ينفون عن الله عز وجل ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا النفي متضمن إثبات كمال الله سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى في الحديث: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) أي: أنه سبحانه وتعالى حرم على نفسه الظلم، ومنع الظلم عن نفسه؛ وذلك لكمال عدله سبحانه وتعالى.
قوله: (وجعلته بينكم محرماً) أي: كما حرمه الله على نفسه فلا يقع منه أبداً فإنه حرمه على عباده، ولكن منهم من يحصل منه الظلم، سواء ظلم نفسه، وذلك بأن يأتي بأمور منكرة تعود مضرتها عليه ويكون ظالماً لنفسه، أو يظلم غيره، سواءٌ أكان ظلمه في نفسه بقتله أو بقطع عضو منه، أم كان في عرضه أم في ماله.
فيكون الظلم قاصراً على الإنسان ويكون متعدياً إلى غيره، فيظلم الإنسان نفسه، وذلك بتركه للأوامر ووقوعه في المعاصي، وكذلك أيضاً يظلم غيره بأن يلحق به الأذى والضرر، فيكون ظالماً لنفسه وظالماً لغيره.
ثم قال: (فلا تظالموا) يعني: فلا تتظالموا، بل عليكم أن تبتعدوا عن الظلم وأن تتركوا الظلم، وأن تكونوا على السداد وعلى العدل، وأن تحذروا من الظلم.
هذه هي الجملة الأولى من الجمل العشر التي اشتمل عليها حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه.