للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أنواع الناس في الاشتغال بالمسائل]

الفائدة السابعة: قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: وقد انقسم الناس في هذا الباب أقساماً: فمن أتباع أهل الحديث من سد باب المسائل، حتى قل فقهه وعلمه بحدود ما أنزل الله على رسوله، وصار حامل فقه غير فقيه.

ومن فقهاء أهل الرأي من توسع في توليد المسائل قبل وقوعها؛ ما يقع في العادة منها وما لا يقع، واشتغلوا بتكلف الجواب عن ذلك، وكثرة الخصومات والجدال عليه حتى يتولد من ذلك انفراق القلوب، ويستقر بها بسببه الأهواء والشحناء والعداوة والبغضاء، ويقترن ذلك كثيراً بنية المغالبة، وطلب العلو والمباهاة، وصرف وجوه الناس، وهذا مما ذمه العلماء الربانيون، ودلت السنة على قبحه وتحريمه.

وأما فقهاء أهل الحديث العاملون به فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب الله عز وجل، وما يفسره من السنن الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة صحيحها وسقيمها، ثم التفقه فيها وتفهمها والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان بأنواع العلوم من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السنة، والزهد، والرقائق وغير ذلك، وهذا هو طريق الإمام أحمد ومن وافقه من علماء الحديث الربانيين، وفي معرفة هذا شغل شاغل عن التشاغل بما أحدث من الرأي مما لا ينتفع به ولا يقع، إنما يورث التجادل فيه الخصومات والجدال وكثرة القيل والقال، وكلام الإمام أحمد كثيراً إذا سئل عن شيء من المسائل المولدة أو المولدات التي لا تقع يقول: دعونا من هذه المسائل المحدثة.

إلى أن قال: ومن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه تمكن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالباً؛ لأن أصولها توجد في تلك الأصول المشار إليها، ولابد أن يكون سلوك هذا الطريق خلف أئمة أهله المجمع على هدايتهم ودرايتهم كـ الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ومن سلك مسلكهم، فإن من ادعى سلوك هذا الطريق على غير طريقتهم وقع في مفاوز ومهالك، وأخذ بما لا يجوز الأخذ به، وترك ما يجب العمل به.

وملاك الأمر كله: أن يقصد بذلك وجه الله، والتقرب إليه بمعرفة ما أنزل على رسوله وسلوك طريقه، والعمل بذلك، ودعاء الخلق إليه، ومن كان كذلك وفقه الله وسدده وألهمه رشده، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:٢٨] ومن الراسخين في العلم.

يقصد رحمه الله بهذا: أن الإنسان عليه أن يشتغل بالكتاب والسنة والتفقه فيها بمعرفة ما جاء به القرآن من الأمور العامة والخاصة، وكذلك السنة ومعرفة ما يصح وما لا يصح، وكذلك معرفة القواعد التي تستنبط من الكتاب والسنة، لأن النوازل والأشياء التي تجب إنما تعرف بهذا الطريق؛ لأن الحوادث لا نهاية لها، وتستجد في كل وقت وحين مسائل، ولكن حلها موجود في الكتاب والسنة، وذلك بالقواعد العامة، وبالجمل الكلية، والقياس وما إلى ذلك؛ لأنه ليس كل أمر يحدث لابد أن يكون فيه نص؛ لأن النصوص استقرت بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الإنسان الذي يشتغل بالقرآن ومعرفة ما فيه، وكذلك يشتغل بالسنة وما فيها من القواعد والكليات والأصول الجامعة حين تستجد المسائل يبحث عن حلها في هذه الأمور الكلية العامة؛ لأنه ليس في كل مسألة نص، ولا يمكن أن يكون الأمر كذلك.

فمثلاً: الدخان الآن من الأشياء التي استجدت، فحصلت في أزمنة قريبة، وعرف العلماء حرمته، واستنبطوا حرمته من نصوص الكتاب والسنة، فأخذوها من قول الله عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:٢٩]؛ لأن فيه قتلاً للنفس؛ فإن الإنسان يهلك نفسه باستعماله، وكذلك أيضاً أخذوه من أن فيه إضاعة مال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال، وأيضاً أخذوه من كون النبي صلى الله عليه وسلم يحل الطيبات ويحرم الخبائث، وليس هو من الطيبات، إذاً هو من الخبائث، وأخذوه أيضاً من النهي عن أكل الثوم والبصل، وأن ذلك يؤذي الناس ويؤذي الملائكة، ومعلوم أن الدخان أشد من ذلك، فهذه المسألة من المسائل التي جدت، ومع ذلك يوجد في عمومات نصوص الكتاب والسنة بيان حكمها، وأنها لا تسوغ ولا تجوز مع أنها ما وجدت إلا في الأزمنة المتأخرة.

فكلام ابن رجب رحمه الله يبين أنه بسلوك هذا المسلك تتضح المسائل، ثم أيضاً الإنسان عندما يسلك هذا المسلك لا يفعل ذلك استقلالاً دون أن يرجع إلى كلام العلماء، ودون أن يرجع إلى من سبقه، بل الإنسان يرجع إلى أهل العلم، ويستفيد من علمهم، ولا يقل: هم رجال ونحن رجال، فنأخذ بكذا وإن لم نرجع إلى كلامهم، فهذا غلط، فالناس بالنسبة للعلماء بين طرفي نقيض ووسط: طرف يقول: هم رجال ونحن رجال، وهذا جفاء.

وطرف يتعصب ويتابع رجلاً معيناً في المسائل المختلفة، وإذا عرض عليه أو ذكر له الدليل بخلاف قوله: لو كان هذا صحيحاً ما خفي على فلان! وقد مر بنا كلام ابن حجر رحمه الله عند مسألة مناظرة عمر رضي الله عنه لـ أبي بكر، وأنه لم يكن عند أبي بكر وعمر -وهما من كبار الصحابة- الحديث الذي فيه ذكر الصلاة والزكاة مع الشهادتين في المقاتلة، وكان عند ابن عمر وعند أبي هريرة، ولهذا قال الحافظ ابن حجر: ولهذا لا يلتفت إلى الآراء ولو قويت إذا وجدت سنة تخالفها، ولا يقال: كيف خفي هذا على فلان؟ فإذاً: هناك طرف فيه جفاء وطرف فيه تعصب، والحق وسط بين هذا وهذا، فيرجع إلى كلام العلماء ويستفاد من علمهم، ويعرف وجه الاستدلال، وأنه قد يكون في المسألة دليل ذكروه عن طريق القياس أو عن طريق الاستنباط أو عن طريق الإلحاق بقاعدة كلية، فالإنسان لايتنبه لذلك إلا إذا رجع إلى كلامهم، ولهذا ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب (الروح) كلاماً جميلاً قال فيه: إن العلماء يجب توقيرهم وتعظيمهم والاستفادة من علمهم، وعندما لا يوجد الدليل الواضح في المسألة يرجع إلى كلامهم وإلى استنباطهم، وإلى مآخذهم، فقد يتبين له من كلامهم ما ينير له الطريق وما يتبصر به، ثم ضرب لذلك مثلاً فقال: مثل الإنسان إذا كان في الفلاة وهو لا يعرف جهة القبلة فإنه يستدل لذلك بجهة النجوم، مطالعها ومغاربها، فيعرف أين اتجاه القبلة بالنظر في النجوم، وأما إذا كان عند الكعبة وصار تحتها والقبلة أمامه فإنه لا ينظر في السماء ليبحث عن القبلة؛ لأن القبلة أمامه.

فإذاً: الإنسان إذا خفي عليه الدليل وصار ليس واضحاً، والحكم ليس واضحاً؛ فلاشك أن الرجوع للعلماء فيه تمكين له بأن يعرف الحق في ذلك، فكلام ابن رجب رحمه الله هو من هذا القبيل، ومعناه: أن الإنسان يشتغل بتفهم القرآن والحديث، ويرجع إلى كلام العلماء ويستفيد منهم.

قال ابن رجب: وفي الجملة فمن امتثل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وانتهى عما نهى عنه وكان مشتغلاً بذلك عن غيره حصل له النجاة في الدنيا والآخرة، ومن خالف ذلك واشتغل بخاطره وما يستحسنه وقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، وعدم انقيادهم وطاعتهم لرسلهم.