قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، رواه البخاري].
هذا حديث عظيم من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه الإخبار عن الرسالات السابقة وأنها تواردت على بيان عظم شأن الحياء وأنه يأتي بخير، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الحياء مما توارثته الأمم وجاء في الشرائع، وهو مما لم ينسخ في الشرائع؛ بل كل شريعة تأتي وفيها بيان هذا الخلق العظيم الذي هو الحياء، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:(إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى)، أي: النبوات السابقة التي كانت قبل نبوة نبينا محمد وقبل رسالته عليه الصلاة والسلام.
وقوله:(إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، يحتمل أن يكون المراد به مدحاً وأن يكون المراد به ذماً.
فيراد به المدح إذا لم يكن هذا الفعل الذي تفعله مما لا يستحيا فيه من الله ومن الخلق فإنه يفعل، وهذا هو المحمود.
ويراد به الذم إذا كان الإنسان ليس عنده حياء ولا يستحيي من الله ولا من خلقه، فإنه يقدم على أمور غير سائغة وأمور محرمة؛ لأنه ليس عنده حياء يحجبه وليس عنده هذا الخلق الكريم الذي يمنعه.
وعلى هذا المعنى الثاني يكون قوله:(فاصنع ما شئت)، من قبيل التهديد والوعيد، وأن الإنسان إذا كان كذلك فإنه يصنع ما يشاء وسيلقى جزاءه، وليس المعنى أنه أذن له بأن يفعل الشيء الذي لا يسوغ ولا يجوز، وإنما هذا من باب التهديد نظير قول الله عز وجل:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف:٢٩]، فإن هذا ليس تخييراً وليس أمراً له بأن يفعل هذا أو هذا؛ لأنه قال بعد ذلك:{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}[الكهف:٢٩].
وكل من المعنيين صحيح، فإذا كان المقصود أن الإنسان إذا لم يكن فعله مما لا يستحيا منه بل هو سائغ ومشروع، فإنه يفعله، فإن هذا معناه صحيح، وإذا كان المقصود به أن الإنسان الذي ليس عنده حياء يحجبه ويمنعه من الوقوع فيما لا ينبغي، فإنه يقدم والحالة هذه على فعل أمور لا يسوغ له فعلها، فيكون معرضاً نفسه للعقوبة، فهذا أيضاً معنى صحيح.
هذا هو معنى هذا الحديث الذي هو من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، والذي يدل على فضل خلق الحياء وأنه خلق كريم، وأن المتصف به يمنعه حياؤه من الوقوع في الأمور المحرمة التي لا تسوغ ولا تجوز.