للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مذهب أهل السنة في أفعال العباد، والرد على القدرية والجبرية]

قوله: [تعالى أن يكون في ملكه مالا يريد، أو يكون لأحد عنه غنى، خالقاً لكل شيء إلا هو، رب العباد ورب أعمالهم، والمقدر لحركاتهم وآجالهم].

الظاهر أن في قوله: [خالقاً لكل شيء إلا هو] سقطاً يدل عليه ما قبله، والتقدير: وأن يكون خالقاً لكل شيء إلا هو، وفي هذه الجمل كلها رد على القدرية الذين يقولون: إن العباد يخلقون أفعالهم، وإن الله لم يقدرها عليهم.

فإن مقتضى قولهم هذا أن أفعال العباد وقعت في ملك الله وهو لم يقدرها، وأنهم بخلقهم لأفعالهم مستغنون عن الله، وأن الله ليس خالقاً لكل شيء، بل إنّ العباد خلقوا أفعالهم، وهذا غير صحيح، فالله سبحانه وتعالى خالق العباد وخالق أفعال العباد، وهو خالق الذوات والصفات، كما قال الله عز وجل: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد:١٦]، وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:٦٢]، وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦].

ويقابل نفاة القدر فرقة أخرى ضالة، وهم الجبرية، فقد سلبوا عن العبد الاختيار، ولم يجعلوا له مشيئة ولا إرادة، وسووا بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية، وزعموا أن كل حركاتهم بمنزلة حركات الأشجار، وأن حركة الآكل والشارب والمصلي والصائم كحركة المرتعش، فليس للإنسان فيها كسب ولا إرادة، وعلى هذا فما فائدة إرسال الرسل، وإنزال الكتب؟! ومن المعلوم قطعاً أن للعبد مشيئة وإرادة، فيحمد على أفعاله الحسنة ويثاب عليها، ويذم على أفعاله السيئة ويعاقب عليها، وأفعاله الاختيارية ينسب إليه فعلها وكسبها، وأما الحركات الاضطرارية كحركة المرتعش فلا يقال: إنها فعل له، وإنما هي صفة له.

ولهذا يقول النحويون في تعريف الفاعل: هو اسم مرفوع يدل على من حصل منه الحدث أو قام به.

والمراد بحصول الحدث الأفعال الاختيارية التي وقعت بمشيئة العبد وإرادته، ومرادهم بقيام الحدث ما لا يقع تحت المشيئة، كالموت والمرض والارتعاش ونحو ذلك، فإذا قيل: أكل زيد وشرب وصلى وصام فزيد فيها فاعل، وقد حصل منه الحدث، وهو الأكل والشرب والصلاة والصيام، وإذا قيل: مرض زيد، أو مات زيد، أو: ارتعشت يده فإن الحدث ليس من فعل زيد، وإنما هو وصف قام به.

وأهل السنة والجماعة وسط بين الجبرية الغلاة في الإثبات، والقدرية النفاة، فإنهم أثبتوا للعبد مشيئة، وأثبتوا للرب مشيئة عامة، وجعلوا مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، كما قال الله عز وجل: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:٢٨ - ٢٩].

فلا يقع في ملك الله ما لم يشأه الله، بخلاف القدرية القائلين: إن العباد يخلقون أفعالهم.

ولا يعاقب العباد على أشياء لا إرادة لهم فيها ولا مشيئة كما هو قول الجبرية.

وبهذا يجاب عن السؤال الذي يتكرر طرحه، وهو: هل العبد مسير أو مخير؟ فلا يقال: إنه مسير بإطلاق، ولا مخير بإطلاق، بل يقال: إنه مخير باعتبار أن له مشيئة وإرادة، وأن أعماله كسب له يثاب على حسنها ويعاقب على سيئها، وهو مسير باعتبار أنه لا يحصل منه شيء خارج عن مشيئة الله وإرادته وخلقه وإيجاده.