[أمور أخرى يحل بها دم المسلم]
جاءت نصوص في قتل أناس غير هؤلاء الثلاثة، منها ما يرجع إلى هذه الأمور الثلاثة مثل السحر، فإنه إذا كان كفراً فهو داخل تحت القسم الثالث من هذه الأقسام الثلاثة، وقد جاءت أحاديث في أناس يقتلون وهم غير هؤلاء الموجودين، مثل القتل باللواط، وكذلك إتيان البهيمة، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)، وكذلك من شهر السلاح على الناس فإنه يقتل، ويكف شره بمقاتلته ومنعه، وهناك أمور أخرى أوردها الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرحه، وهي عشرة، ومنها: قتل شارب الخمر في المرة الثالث، وقتل السارق في المرة الخامسة، وغيرهم.
وهذه الأمور فيها خلاف بين أهل العلم؛ ولكن ما ثبت منها فإنه يضاف إلى هذه الأمور الثلاثة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون الحصر فيها من قبيل الحصر الإضافي الذي فيه الإشارة إلى أهميتها ووضوحها وجلائها، وأن غيرها يكون مضافاً إليها، أي: ما ثبت وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يضاف إلى هذا العدد الذي جاء في هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى في ذكره لتلك الأمور العشرة التي يقتل بها المسلم: (فمنها: في اللواط، ومنها: من أتى ذات محرم، ومنها: الساحر، ومنها: قتل من وقع على بهيمة، ومنها: من ترك الصلاة، ومنها: قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، وقد رُوي قتل السارق في المرة الخامسة، ومنها ما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخِر منهما)، ومنها: من شهر السلاح، ومنها: قتل الجاسوس المسلم إذا تجسس للكفار على المسلمين، ومنها: ما أخرجه أبو داود في المراسيل من رواية ابن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ضرب أباه فاقتلوه).
هذه عشرة أمور ذكرها الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الحديث، وهي تضاف إلى الثلاثة الموجودة، والسحر إذا كان كفراً فإنه داخل تحت القسم الثالث: (التارك لدينه المفارق للجماعة).
قال: (واعلم أن من هذه الأحاديث المذكورة ما لا يصح، ولا يعرف به قائل معتبر، كحديث: (من ضرب أباه فاقتلوه)، وحديث قتل السارق في المرة الخامسة، وباقي النصوص كلها يمكن ردها إلى حديث ابن مسعود؛ وذلك أن حديث ابن مسعود يتضمن أنه لا يستباح دم المسلم إلا بإحدى ثلاث خصال: إما أن يترك دنيه ويفارق جماعة المسلمين، وإما أن يزني وهو محصن، وإما أن يقتل نفساً بغير حق.
فيؤخذ منه: أن قتل المسلم لا يستباح إلا بأحد ثلاثة أنواع: ترك الدين، وإراقة الدم المحرم، وانتهاك الفرج المحرم، فهذه الأنواع الثلاثة هي التي تبيح دم المسلم دون غيرها، فأما انتهاك الفرج المحرم فقد ذكر في الحديث: أنه الزنا بعد الإحصان، وهذا -والله أعلم- على وجه المثال، فإن المحصن قد تمت عليه النعمة بنيل هذه الشهوة بالنكاح، فإذا أتاها بعد ذلك من فرج محرم عليه أبيح دمه، وقد ينتفي شرط الإحصان فيخلفه شرط آخر، وهو كون الفرج لا يستباح بحال: إما مطلقاً كاللواط، أو في حق الواطئ، كمن وطئ ذات محرم بعقد أو غيره، فهذا الوصف هل يكون قائماً مقام الإحصان وخلفاً عنه؟ هذا هو محل النزاع بين العلماء، والأحاديث دالة على أنه يكون خلفاً عنه، ويُكتفى به في إباحة الدم).
ومعنى كلامه: أن اللواط ووطء ذات المحرم يكون بمعنى الزنا.
قال: (وأما سفك الدم الحرام، فهل يقوم مقام إثارة الفتن المؤدية إلى سفك الدماء كتفريق جماعة المسلمين، وشق العصا، والمبايعة لإمام ثانٍ، ودل الكفار على عورات المسلمين.
هذا هو محل النزاع، وقد رُوي عن عمر ما يدل على إباحة القتل بمثل هذا؛ وكذلك شهر السلاح لطلب القتل، هل يقوم مقام القتل في إباحة الدم أم لا؟ فـ ابن الزبير وعائشة رأياه قائماً مقام القتل الحقيقي في ذلك.
وكذلك قطع الطريق بمجرده هل يبيح القتل أم لا؟ لأنه مظنة لسفك الدماء المحرمة، وقول الله عز وجل: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:٣٢]، يدل على أنه إنما يباح قتل النفس بشيئين: أحدهما: بالنفس، والثاني: بالفساد في الأرض، ويدخل في الفساد في الأرض: الحرابة والردة والزنا؛ فإن ذلك كله فساد في الأرض، وكذلك تكرر شرب الخمر والإصرار عليه هو مظنة سفك الدماء المحرمة، وقد اجتمع الصحابة في عهد عمر على حده ثمانين، وجعل السكر مظنة الافتراء والقذف الموجبة لجلد الثمانين، ولما قدم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه وسلم ونهاهم عن الأشربة والانتباذ في الظروف قال: (إن أحدكم ليقوم إلى ابن عمه -يعني: إذا شرب- فيضربه بالسيف)، وكان فيهم رجل قد أصابته جراحة من ذلك، فكان يخبؤها حياء من النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا كله يرجع إلى إباحة الدم بالقتل، إقامة لظن القتل مقام الحقيقة؛ لكن هل نسخ ذلك أم حكمه باق؟ وهذا هو محل النزاع! وأما ترك الدين ومفارقة الجماعة فمعناه: الارتداد عن دين الإسلام ولو أتى بالشهادتين، فلو سب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو مقر بالشهادتين أبيح دمه؛ لأنه قد ترك بذلك دينه، وكذلك لو استهان بالمصحف وألقاه في القاذورات، أو جحد ما يُعلم من الدين بالضرورة كالصلاة وما أشبه ذلك مما يُخرج من الدين، وهل يقوم مقام ذلك ترك شيء من أركان الإسلام؟ هذا ينبني على أنه هل يخرج من الدين بالكلية بذلك أم لا؟ فمن رآه خروجاً عن الدين كان عنده كترك الشهادتين وإنكارهما، ومن لم يره خروجاً عن الدين فاختلفوا: هل يلحق بتارك الدين في القتل لكونه ترك أحد مباني الإسلام أم لا؟ لكونه لم يخرج عن الدين، ومن هذا الباب ما قاله كثير من العلماء في قتل الداعية إلى البدع، فإنهم نظروا إلى أن ذلك شبيه بالخروج عن الدين، وهو ذريعة ووسيلة إليه، فإن استخفى بذلك ولم يدع غيره كان حكمه حكم المنافقين إذا استخفوا، وإذا دعا إلى ذلك تغلظ جرمه بإفساد دين الأمة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتال الخوارج وقتلهم، وقد اختلف العلماء في حكمهم: فمنهم من قال: هم كفار، فيكون قتلهم لكفرهم، ومنهم من قال: إنهم يقتلون لفسادهم في الأرض بسفك دماء المسلمين وتكفيرهم لهم، وهو قول مالك وطائفة من أصحابنا، وأجازوا الابتداء بقتالهم والإجهاز على جريحهم.
ومنهم من قال: إن دعوا إلى ما هم عليه قوتلوا، وإن أظهروه ولم يدعوا إليه لم يقاتلوا، وهو نص أحمد وإسحاق، وهو يرجع إلى قتال من دعا إلى بدعة مغلظة، ومنهم من لم ير البداءة بقتالهم حتى يبدءوا بقتال يبيح قتالهم من سفك دماء ونحوه، كما روي عن علي وهو قول الشافعي وكثير من أصحابنا.
وقد رُوي من وجوه متعددة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل رجل كان يصلي، وقال: (لو قُتل لكان أول فتنة وآخرها).
وفي رواية: (لو قتل لم يختلف رجلان من أمتي حتى يخرج الدجال)، خرجه الإمام أحمد رحمه الله وغيره).
هذا الحديث رواه من حديث بريدة الإمام الطحاوي في مشكل الآثار، وابن عدي في الكامل ومن طريقه ابن الجوزي في مقدمة الموضوعات، وفيه صالح بن حيان القرشي وهو ضعيف، ورواه ابن الجوزي من حديث عبد الله بن الزبير، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، قال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عطاء بن السائب عن رجل من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعند الطبراني في الكبير، قال الهيثمي: وفيه أبو حمزة الثمالي وهو ضعيف.
قال: (فيستدل بهذا على قتل المبتدع إذا كان قتله يكف شره عن المسلمين، ويحسم مادة الفتن، وقد حكى ابن عبد البر وغيره عن مذهب مالك جواز قتل الداعي إلى البدعة، فرجعت نصوص القتل كلها إلى ما في حديث ابن مسعود بهذا التقدير، ولله الحمد.
وكثير من العلماء يقول في كثير من هذه النصوص التي ذكرناها هاهنا: إنها منسوخة بحديث ابن مسعود، وفي هذا نظر من وجهين: أحدهما: أنه لا يعلم أن حديث ابن مسعود كان متأخراً عن تلك النصوص كلها، لا سيما وابن مسعود من قدماء المهاجرين، وكثير من تلك النصوص يرويها من تأخر إسلامه كـ أبي هريرة وجرير بن عبد الله ومعاوية، فإن هؤلاء كلهم رووا حديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة.
والثاني: أن الخاص لا ينسخ بالعام ولو كان العام متأخراً عنه في الصحيح الذي عليه جمهور العلماء؛ لأن دلالة الخاص على معناه بالنص، ودلالة العام عليه بالظاهر عند الأكثرين، فلا يبطل الظاهر حكم النص، وقد رُوي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل رجل كذب عليه في حياته)، وقال لحي من العرب: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم)، وهذا روي من وجوه متعددة كلها ضعيفة، وفي بعضها: أن هذا الرجل كان قد خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه، وأنه لما قال لهم هذه المقالة صدقوه ونزل على تلك المرأة، وحينئذ فإن هذا الرجل قد زنى ونسب إباحة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كفر وردة عن الدين.
وفي صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً بقتل القبطي الذي كان يدخل على أم ولده