وهو دور التدريس والتأليف، وكذلك فان المصادر لا تصرح بشيء عن حياته التي قضاها بعد الانفصال عن منصبه وهجرته إلى بلنسية والإقامة بها، إلا أننا نعتقد، أن الوقشي رحمة الله كان قد عكف على القراءة والتأليف، وكرس حياته للإقراء، والتدريس بعد الانصراف عن طلبيرة، وذلك لأن معظم طلابه وتلاميذه هم البلنسيون، حتى أن عددهم يزيد من تلاميذه الطليطليين، فهذا مما يمكن به الاستدلال على أن الوقشي أكثر الرواية والإقراء، وهو ببلنسية. ثم أن المعلومات الضئيلة القليلة التي وصلت إلينا عن حياته من طريق كتب التراجم والتاريخ تنص على اشتغاله بالتأليف والتدريس والرواية بها. قمن ذلك ما ذكره الضبي. أن أبا عامر الخطيب البلنسي، من تلاميذه الوقشي، كان قد روى عنه كتاب السيرة بسنده. وروى عنه أبو محمد عبد المنعم بن محمد. وعنه الضبي صاحب يغية الملتمس. ومن ذلك ما روى أنه كتس إلى محمد بن عثمان أبى عبد الله البكري الحجارى وذلك سنة ٤٧٥هـ. ثم أن الوقشي، كعالم رباني صاحب التصانيف، وذى العدد الضخم من التلاميذ، كان قد احتل مكانة كبيرة في نفوس أهل بلنسية. مما جعلهم يلجؤون إليه في مصابهم ويجتمعون أليه في أزمتهم الخطيرة وفي نكبتهم الكبيرة ليتزعمهم وينقذهم منها.
ثم أن العدو كان قد حاصر بلنسية، ودخلها بعد أخذ المواعيد وعقد العقود التي ما رعاها ونبذها نبذا، ودهى الاحتلال الأجنبي أهل بلنسية من المسلمين، فدهشوا وبهتوا وكابدوا من آلام، وأصيبوا بالقتل والاضطهاد والإرهاب، ونهب الأموال وفتك الأعراض والخوف والجوع فاستصرخوا بملوك الإسلام، كالمستعين ابن هود، وقواد الجيش المرابصى، إلا إن الإغاثة قد تمطلت، والنصرة قد تأخرت، وكانوا في أشد حاجة إلى من يتولى أمرهم ويقودهم وينقذهم مما أصابهم، ولكن ليس من ينهض بذلك ولا من يتقدم إليه غير صاحبنا الوقشي، وذلك الإنسان النبيل الشجاع، والعالم الرباني. فيتولى أمر المسلمين، ويلتزم قضائهم. ويتكلم نيابة عنهم، ويأخذ لهم الأمان بشرط التوقف.
وللقوشى فصيدة مؤثرة، بكى فيها مصاب المسلمين من أهل بلنسية، على يد القمبيطور، إلا أن أصلها قد ضاع، ولم يبق منها إلا ترجمة بعض الأبيات، ونقلت إلى اللغة الأسبانية، ورددتها ألسنة العامة ومنها ما معناه:
إذا أنا مضيت يمينا، هلكت بماء الفيضان.
وإذا ذهب يسارا، أكلني السبع.
وإذا مضيت أمامي، غرقت في البحر.
وإن التفت خلفي، أحرقتني النار.
ولا يحدثنا التاريخ متى خرج الوقشي من بلنسية، وإنما لراه. وهو في دانية على وشك الرحيل إلى رحمة الله. ولم يتوقف رحمة الله من الرواية والتدريس، وهو بدانية فان لدينا أساء من تلاميذه الدانيين الذين أخذوا منه في الأيام الأخيرة من عمره.
[وفاته ومدفنه]
وتوفي أبو الوليد الوقشي، على أصح الأقاويل، يوم الثلاثاء ليلية بقيت من جمادى الآخرة سنة تسع وثمانين وأربعمائة من الهجرة النبوية وقد تجاوز الثمانين من عمره وقيل سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. رحمة الله واسعة وجعل الجنة مثواه ومتعنا بما تركه من المعارف والآثار.
وقد بلغ اهتمام الدانيين به وحبهم واحترامهم له إلى أن دفنوه بازاء الجامع القديم لدانية ويبدو أن قبره كان معروفا بين الناس إلى مدة غير قليلة فان كتب التراجم تذكر قبره في كثير من المواضع وكان أبو مروان عبد الملك بن محمد الإيادي والد أبى العلاء ابن زهر قد دفن عند قبر أبى الوليد الوقشي، إلا أن ابن الأبار يذكر أن هذين القبرين لم يكونا يعرفان في عصره.
[بعض ملامح شخصيته]
[بداهة القول]
كان للوقشي رحمة الله حظا وافر من الفهم والذكاء وبداهة القول. وله مواقف غريبة في ذلك، احتفظ ببعضها، وكتب التاريخ والتراجم. فمن ذلك ما روى أنه حضر يوما مجلس ابن ذي النون، فقدم نوع من الحلواء، يعرف " بآذان القاضي " فتهافت من الخواص الملك عليها، وجعلوا يكثرون من آكلها، وكان فيما قدم من الفاكهة، طبق فيه، نوع يسمى عيون البقر، فقال له المأمون، يا قاضي؟ ؟؟؟؟؟؟ أرى هؤلاء يأكلون أذنيك فقال: وأنا أيضا آكل عيونهم وكشف عن الطبق وجعل يأكل منه واختصم إليه رجلان، فقال أحدهما: يا فقيه اشتريت من هذا أثني عشر تيسا حاشاك، فقال له الوقشي: قل أحد عشر.