ولو لم يكن لمآثرك ذاكر، ولا لمفاخرك ناشر، إلا ذو الوزارتين، أبو فلان أبقاه الله لقام لك مقام سحبان وائل، وأغناك عن قول كل قائل، فأنه يمد في مضمار ذكرك بارعا رحيبا، ويقوم بفخرك في كل ناد خطيبا، حتى تثنى إليه الأحداق، وتلوى نحوه الأعناق، فكيف وما يقول إلا بالذي علمت سعد، وما تقرر في النفوس من قبل ومن بعد، فذكرك قد أنجد، وغار، ولم يسرفلك حيث سار، وإن ليل جهل أطلعت فيه فجر تبصيرك، لجدير بأن يصير نهارا، وأن نبع فكر قدحته بتذكيرك لجدير أن يعود مرخا وعفارا، فهنيئا لك الفضل، الذي أنت فيه راسخ القدم، شامخ العلم، منشور اللهواء، مشهور الذكاء مليت الآداب عمرك، ولا عدمت الألباب ذكرك، ورقيت من المراتب أعلاها، ولقيت من المآرب أقصاها، بفضل الله.
[٤ - الشاعر المفلق]
كان أبو محمد أبن السيد البطليوسي، من الشعراء المعدودين، المذكورين، وهو من شعراء الذخيرة، والخريدة ومعجم السلفى. وله شعر يجمع بين سلالة التفكير وسلاسة التعبير، ومعالجة كثير من مسائل الحياة، ومشاكل البيئة، والاجتماع وخوالج النفس، وعواطفها ووصف الطبيعة ومظاهرها. وقد احتفظت ببعضه كتب التراجم، والتأريخ، كنفح الطيب للمقرى، وأزهار الرياض له، وقلائد العقيان في محاسن الأعيان، للفتح أبن خاقان، والمغرب في حلى المغرب، وغيرها من المصادر التأريخية.
ويمتاز شعره بسلاسة اللفظ، واختياره، وسهولة المعاني وابتكارها. وقد ضمنه من الحكم والأمثال، والأفكار الفلسفية العميقة، والخيالات الجميلة البديعة، مع نوادر التشبيه، وروائع الاستعارة.
وعلى شعره طابع واضح من أثر المعرى، والمتنبىء، وأبي تمام، وغيرهم من شعراء العصر العباسي، من هذا الجيل، الذين تأثر بهم شعراء الأندلس أكثر ما تأثروا به من شعراء العرب في الشرق. ونراه في بعض الأحيان، يكلف نفسه بلزوم مالا يلزم كصاحبه أبي العلأ المعري. وليس ذلك بدعا منه، فأنه قد تصدى لشرح سقط الزند لأبي العلاء، وديوان المتنبي، كما أنه عنى بدراسة شعرهما أبي تمام، وغيره من فحول القدماء. إلا أنه لا يحاكيهم، ولا يحتذيهم إلى حد بعيد، ليصبح " معرى الغرب "، أو غير ذلك، كما حاول أبن هانىء الأندلسي في محاكاة المشارقة، واحتذائهم، وتقليدهم وخاصة المتنبي منهم حتى حاز لنفسه لقب " متنبي الغرب "، وإنما كان أبن السيد يشعر لنفسه ويعبر عن نزوات حسه، ولم يكن يكلف نفسه في ذلك أكثر من اللازم والضرورة.
وإننا نجد في شعر أبن السيد، أجود ما خصت به الطبيعة أهل الأندلس، من وصف المناظرر، وشرح العواطف، وسمو الخيال، وصفاء الديباجة، ونراه أحيانا تأتلق نفسه الفياضة، وينشرح صدره الرحيب، فتتفتح مشاعره الذكية لجمال الطبيعة، ورونقها، ولذات الحياة، ومعتها، وعجائب الكون، غرائبه، فيصف الخيل والليل، وقصور الترف ومجالس الطرب، والأندلس لملوك الطوائف، التي كان يدعى إليها، ويحضرها، ويتمتع بها.
وأما الأغراض الشعرية عند أبن السيد، فأنها لا تختلف عن شعر شعراء الأندلس في وقته. فقد تناول في شعره من المدح والرثاء، والوصف، والحكم، والأمثال، والغزل، والنسيب، والإخوانيات، ونوع آخر، من شعره، يمكن لنا أن نسميه " الشعر الديني "، وهو ما قاله في التوحيد، والزهد، ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ومكة المكرمة شرفها الله.
وقد مدح أبن السيد من ملوك الطوائف: القادر بالله أبن ذي النون. والأمير الظافر عبد الرحمن بن عبيد الله بن ذي النون. والمستعين بالله أبن هود. وأبن رزين صاحب السهلة. كما أنه مدح من الأعيان، ذا الوزارتين أبا عيسى أبن لبون.
وذا الوزارتين أبا محمد ابن الفرج. وقد رثى الوزير الأجل أبا عبد الملك ابن عبد العزيز البلنسي. وله شعر في المكاتبات والرسائل، بعث إلى إخوانه، وأصدقائه، في شتى المناسبات، منهم أبو الحسن راشد بن عريب. وذو الوزارتين أبو عبد الله محمد بن مسعود بن ابي الخصال. والأستاذ أبو محمد ابن جوشن.
[نماذج من شعره]
قال يصف مجلس القادر بالله ابن ذي النون من مجالس أنسه وطربه " المنسرح "
يا منظرا إن رمقت بهجته ... أذكرني حسن جنة الخلد
تربة مسك وجو عنبرة ... وغيم ند وطش ماورد
والماء كاللا زورد قد نظمت ... فيه اللالي فواغر الأسد