وقد كانت نتيجة هذا الترف، والبذخ، وكثرة الجواري، والغلمان أن انتشرت الخلاعة والمجون، وعمت مجالس اللهو والطرب، وساءت أخلاق العامة والخاصة، وفسد المجتمع الإسلامي، وانغمس الشعراء الكتاب في حمأة الدعارة، ونطقت ألسنتهم بأفحش الأقوال. وزاد الطين بلة إذا شجعهم الملوك والأمراء على ذلك، وشاركوهم في مجالسهم للطرب واللهو والأنس. حتى أننا نراهم قد بلغ فسقهم القمة إذ يقيمون هذه المجالس اللاهية في الليلة السابعة والعشرين من رمضان، الليلة المباركة التي يجب أن ينقطع فيها الإنسان المسلم إلى العبادة وذكر الله عز وجل، ويقول الفتح ابن خاقان: وأخبرني الوزير أبو الحسين بن سراج، وهو بمنزل الوزير أبي عامر بن شهيد، وكان من البلاغة في مدى غاية البيان، ومن الفصاحة في أعلى مراتب التبيان، وكنا نحضر مجلس شرابه ولا نغيب عن بابه، وكان له، بباب الصومعة من الجامع، موضع لا يفارقه أكثر نهاره، ولا يخليه عن نثر درره، وأزهاره. فقعد فيه ليلة سبع وعشرين من رمضان، في لمة إخوانه، وأئمة سلوانه، وقد ليقطفوا نخب أدبه، وهو يخلط لهم الجد بالهزل، ولا يفرط من انبساط مشتهر، ولا انقباض جزل، إذا بجارية من أعيان أهل قرطبة، معها من جواريها من يسترها ويواريها، وهي ترتاد موضعا لمناجاة ربها، وتبتغي منزلا لاستغفار ذنبها، وهي متنقبة خائفة، وممن يرقبها مترقبة، وأمامها طفل لها كأنه غض آس، أوضبي يمرح في كناس. فلما وقعت عينها على أبي عامر، ولت سريعة، وتولث مروعة، خيفة أن يشبب بها، أو يشهرها باسمها. فلما نظرها قال قولا فضحها به وشهرها. " المتقارب ":
وناظرة تحت طي القناع ... دعاها إلى الله للخير داع
سعت خيفة تبتغي منزلا ... بوصل التبتل والانقطاع
وجالت بموضعنا جولة ... فحل الربيع بتلك البقاع
أتتنا تبختر في مشيها ... فحلت بواد كثير السباع
[٦ - العناية بالعلوم والآداب في هذا العصر]
جرت حادثتان في قرطبة فغيرنا مجرى التاريخ الإسلامي الأندلسي، أولهما موت الحكم المستنصر بالله الخليفة الأموي في سنة ٣٦٦ هـ. فتغلب ابن ابي عامر على مقاليد الحكم، وتدبير الملك، ثم أمر باخراج الكتب من الفلسفة، والمنطق وعلم النجوم، والكلام، غير ذلك، وإحراق بعضها، وطرح بعضها في الآبار ودفنها تحت التراب والحجارة، وكل ذلك كان تحببا إلى عوام الأندلس، وتقبيحا لمذهب الخليفة الراحل عندهم. فتنوهبت مكتبة المستنصر وخزانته الكبرى من نفائس الكتب، وانتشرت كتبه في أنحاء الأندلس، وتستر الناس بما كان عندهم من كتب العلوم المهجورة، إلى أن جاء أمر الله بظهورها، واصبح اهتمام العامة بالمكتبات، واقتناء الكتب في سائر البلاد الأندلسية، أمرا ملحوظا وأخذ الناس يتنافسون في ذلك.
والحادثة الثانية هي موت ابن أبي عامر نفسه، ذلك الزعيم البطل، والأمير الموهوب، الذي يعتبر أعظم أمراء الأندلس، وأكبر قوادها، ذلك سنة ٣٩٣هـ والفترة التي تلت موته كانت فترة مضطربة جدا، تعاقب فيها خلفاء ضعفاء، الذين لم يكن لهم حظ من الخلافة والحكم إلا الأسماء والألقاب. وانتهى الأمر بثورة الولاة والحكام، وإعلان استقلالهم في كل مدينة. " ولما ثار ملوك الطوائف بعد انهيار الدولة الأموية وتفرقوا في البلاد، كان في تفرقهم اجتماع على النعم لفضلاء العباد، إذ نفقوا سوق العلوم، وتباروا في المثوبة على المنثور والمنظوم، فما كان أعظم مباهاتهم إلا قول: العالم الفلاني عند الملك الفلاني والشاعر الفلاني مختص بالملك الفلاني وليس منهم إلا من بذل وسعه في المكارم ونبهت الأمداح من مآثره ما ليس طول الدهر بنائم، وقد سمعت ما كان من الفتيان العامرية مجاهد ومنذر وخيران، وسمعت عن الملوك العربية، بنو عباد، وبنو صمادح، وبنو الأفطس، وبنو ذي النون، بنو هود، كل منهم قد خلت فيه من الأمداح ما لو مدح به الليل لصار أضواء من الصباح، ولم تزل الشعراء تتهاوى بينهم تهاوي النواسم بين الرياض، وتفتك في أموالهم فتكة البراض.