ويقول القاضي صاعد أنه لما " انقرضت دولة بني أمية من الأندلس، وافترق الملك من المسربين عليهم في صدر المائة الخامسة من الهجرة، وصاروا طوائف، واقتعد كل ملك قاعدة من أمهات البلاد، فاشتغل بهم ملوك الحاضرة العظمى فرطبة عن امتحان الناس، والتعقب عليهم، واضطراتهم الفتنة إلى بيع ما كان بقصر قرطبة، من ذخائر ملوك الجماعة، من الكتب، وسائر المتاع، فبيع ذلك بأوكس ثمن، قيمة، وانتشرت تلك الكتب بأقطار الأندلس، ووجد في خلالها أعلاق من العلوم القديمة، كانت قد أفلتت من أيدي الممتحنين بحركة الحكم أيام المنصور بن أبي عامر، وأظهر أيضا كل من كان عنده من الرعية شيء منها، فلم تزل الرغبة ترتفع من حين إلى حين في طلب العلم القديم شيئا فشيئا، وقواعد الطوائف تتمصر قليلا قليلا ".
فأنت ترى أن موت الحكم كانت خسارة علمية وسياسية في نفس الوقت، تعرقلت به الحركة العلمية التي بدأت في عهود آبائه من الخلفاء وبلغت القمة في عهده، كما أن الخلافة الأموية في الأندلس ضعفت بموته حتى تزعزع بنيانها وانتقل الحكم من الأمويين إلى ابن أبي عامر، وأولاده، وأحفاده ومنهم انتقل الحكم إلى ملوك الطوائف. أما موت ابن أبي عامر فقد كانت خسارة سياسية فقط. فبموته شق عصا الجماعة وانبعثت الفتن وافتتحت أبواب الآلام على الأمة الإسلامية التي لم تزل تعاني الشدائد وتعالج المصائب إلى أن أنقذها يوسف بن تاشفين اللمتوني.
لا شك أن هذه الخسائر الكبيرة، كان لها أثر بالغ، واسع المدى في حياة الأمة الإسلامية الأندلسية، ومستقبلها، إلا أن مجهودات الخليفة العلامة الحكم المستنصر، ومجهوات لآبائه، لم تذهب باطلا وإنما كللها الله تعالى بالنجاح والإثماء، فاستوى غرسها على سواقة وآتى أكله. فقد كانت الأندلس، في خلال القرون الثلاثة أو الأربعة من الحكم الإسلامي، قد استكملت شخصيتها العلمية والأدبية وتهيأت للنشاط الأدبي والبحث العلمي، وباتت تنافس بغداد والمشرق كله في العلوم والآداب وجميع ألوان المعرفة وأصبحت كل عاصمة من عواصم ملوك الطوائف مركزا من المراكز الثقافية والعلمية والأدبية، واستطاعت دول الطوائف، على الرغم تطاحنها، أن تعيد بهاء الحضارة الأندلسية في قصورها، ومجتمعاتها، وعرفت الأندلس في هذه الحقبة المضطربة من تاريخها، طائفة من العلماء والأدباء والشعراء والفلاسفة، قد سار بذكرهم ركبان وخلدت أسمائهم أمجادهم من الكتب والمؤلفات ولا يسعنا ضيق الوقت والمكان أن نذكر أسمائهم وأسماء مؤلفاتهم أو نلم بتراجمهم وفضائلهم ومحاسنهم، إلا أن القليل يشفي الغليل، ويغنى عن الكثير، فمن هؤلاء الأعلام يوسف بن عبد الله أبو عمر ابن عبد البر المتوفى سنة ٤٦٣ هـ، وسليمان بن خلف أبو الوليد الباجى المتوفى سنة ٤٧٤هـ في علوم الحديث، وأبو غالب تمتم بن غالب المعروف بابن التبانى المتوفى سنة ٤٣٦ هـ، صاحب " تلقيح العين " وعلى بن إسماعيل أبو الحسن ابن سيده المتوفى سنة ٤٥٨ هـ. صاحب " المحكم " و " المخصص " في علوم اللغة، وابن حيان المتوفى ٤٦٩ هـ في التاريخ، وصاحبنا ابن السيد اليطليوسى المتوفى ٥٢١ هـ في النحو، والفقيه أبو محمد علي بن أحمد ابن حزم المتوفى ٤٥٦ هـ، وعبد الله بن احمد السرقسطى المتوفى سنة ٤٤٨ هـ، وصاحبنا أبو الوليد الوقشي المتوفى ٤٨٩ هـ في علوم المنطق والفلسفة والهندسة والرياضى، والشعراء من أمثال ابن زيدون المتوفى ٣٦٢ هـ، وابن عبدون المتوفى ٥٢٠ هـ، وابن بسام صاحب الذخيرة المتوفى ٤٠٣ هـ، وزميله ومعاصره محمد بن عبد الغفور الكلاعى صاحب " أحكام صنعه الكلام " ورسالة " الساجعة " و " الغربيب " في تاريخ الشعر والشعراء والنقد الأدبي.