للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

رابعًا: إن مستوى الإدراك والاستيعاب يتفاوت بين الناس، ولكن أمام رؤية العين المجردة المثال العملي الحي وهو (القدوة) يتساوى فيه كل البشر، لذا كانت الحاجة ضرورية وملحة لوجود القدوة الحسنة لتستوعب عموم طبقات البشر، فَيُوَلِّد لديهم الحوافز القوية والفعالة لأن يتمثلوا أخلاقه وأفعاله.

قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١)} [الأحزاب: ٢١].

- قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: «هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وأحواله; ولهذا أمر الناس بالتأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه -عز وجل-، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين; ولهذا قال تعالى للذين تقلقلوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: ٢١]، أي: هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله؟ ولهذا قال: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١)} [الأحزاب: ٢١]».

ففي هذا الآية إرشاد عظيم من الله تبارك وتعالى لعموم المؤمنين أن يتخذوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة وأسوة حسنة لهم، يقتدون به، في أعماله، وأقواله، وأخلاقه، وكلِّ أمره فهو خير أسوة وقدوة يقتدي بها.

يقول ابن حزم (١):


(١) أبو محمد علي بن حزم الأندلسي (٣٠ رمضان ٣٨٤ هـ/ ٧ نوفمبر ٩٩٤ م) قرطبة - (٢٨ شعبان ٤٥٦ هـ/ ١٥ اغسطس ١٠٦٤ م) هو: الإمامُ الأوحدُ، البحرُ، ذو الفنون = = والمعارف، الفقيهُ الحافظُ، المتكلِّمُ الأديبُ، الوزيرُ الظَّاهريُّ، صاحبُ التَّصانيف؛ أبو محمَّدٍ عليُّ بنُ أحمدَ بنِ سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد، الفارسيُّ الأصل، ثمَّ الأندلسيُّ القرطبيُّ اليزيديُّ؛ مولى الأمير يزيد بن أبي سفيان بن حرب الأموي -رضي الله عنه- المعروف بيزيد الخير، نائب أمير المؤمنين أبي حفصٍ عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- على دمشقَ. فكان جده يزيد؛ مولىً للأمير يزيد أخي معاوية، وكان جدُّه خلف بن معدان هو أول من دخل الأندلس في صحابة ملك الأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام المعروف بالدَّاخل، وفاته: قال صاعد: ونقلتُ من خطِّ ابنه أبي رافعٍ؛ أنَّ أباه توفي ـ -رحمه الله- ـ عَشية يوم الأحد، لليلتين بقيتا من شعبان، سنة ستٍّ وخمسين وأربع مئة. فكان عُمُره إحدى وسبعين سنةً وأشهرًا، رحمه الله تعالى. زيادة من: «تذكرة الحفَّاظ).
وللاستزادة ينظر: سير أعلام النبلاء (١٨/ ١٨٤ - ٢١٢): (٩٩)، وتاريخ الإسلام، (الطبقة: ٤٦/ الترجمة: ١٦٨)؛ كلاهما للإمام شمس الدين الذَّهبيِّ (٧٤٨ هـ)، وسياق الكلام فيها له -رحمه الله- مِنَ: السِّيَر، غير أنِّي عمدت إلى النص؛ فاختصرته، وهذَّبته، ورتبته.
عقيدة ابن حزم ومنهجه:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وَإِنْ كَانَ «أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ» فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْقَدَرِ أَقْوَمَ مِنْ غَيْرِهِ وَأَعْلَمَ بِالْحَدِيثِ وَأَكْثَرَ تَعْظِيمًا لَهُ وَلِأَهْلِهِ مَنْ غَيْرِهِ، لَكِنْ قَدْ خَالَطَ مِنْ أَقْوَالِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ مَا صَرَفَهُ عَنْ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي مَعَانِي مَذْهَبِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَوَافَقَ هَؤُلَاءِ فِي اللَّفْظِ وَهَؤُلَاءِ فِي الْمَعْنَى. وَبِمِثْلِ هَذَا صَارَ يَذُمُّهُ مَنْ يَذُمُّهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ بِاتِّبَاعِهِ لِظَاهِرٍ لَا بَاطِنَ لَهُ. كَمَا نَفَى الْمَعَانِيَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالِاشْتِقَاقِ، وَكَمَا نَفَى خَرْقَ الْعَادَاتِ وَنَحْوَهُ مِنْ عِبَادَاتِ الْقُلُوبِ. مَضْمُومًا إلَى مَا فِي كَلَامِهِ مِنْ الْوَقِيعَةِ فِي الْأَكَابِرِ وَالْإِسْرَافِ فِي نَفْيِ الْمَعَانِي، وَدَعْوَى مُتَابَعَةِ الظَّوَاهِرِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَالْعُلُومِ الْوَاسِعَةِ الْكَثِيرَةِ مَا لَا يَدْفَعُهُ إلَّا مُكَابِرٌ وَيُوجَدُ فِي كُتُبِهِ مِنْ كَثْرَةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْأَقْوَالِ، وَالْمَعْرِفَةِ بِالْأَحْوَالِ، وَالتَّعْظِيمِ لِدَعَائِمِ الْإِسْلَامِ، وَلِجَانِبِ الرِّسَالَةِ: مَا لَا يَجْتَمِعُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِ، فَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا حَدِيثٌ، يَكُونُ جَانِبُهُ فِيهَا ظَاهِرَ التَّرْجِيحِ. وَلَهُ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّحِيحِ = =وَالضَّعِيفِ وَالْمَعْرِفَةِ بِأَقْوَالِ السَّلَفِ مَا لَا يَكَادُ يَقَعُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ» انتهى.
مجموع الفتاوى (٤/ ١٩ - ٢٠).
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- أيضًا: «وكذلك أبو محمد بن حزم مع معرفته بالحديث وانتصاره لطريقة داود وأمثاله من نفاة القياس أصحاب الظاهر قد بالغ في نفي الصفات وردها إلى العلم، مع أنه لا يثبت علمًا هو صفة ويزعم أن أسماء الله كالعليم والقدير ونحوهما لا تدل على العلم والقدرة، وينتسب إلى الإمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة، ويدعي أن قوله هو قول أهل السنة والحديث، ويذم الأشعري وأصحابه ذمًّا عظيمًا، ويدعي أنهم خرجوا عن مذهب السنة والحديث في الصفات، ومن المعلوم الذي لا يمكن مدافعته أن مذهب الأشعري وأصحابه في مسائل الصفات أقرب إلى مذهب أهل السنة والحديث من مذهب ابن حزم وأمثاله في ذلك» انتهى.
درء تعارض العقل والنقل (٣/ ٢٤).
وقال شيخ الإسلام أيضًا: «وزعم ابن حزم أن أسماء الله تعالى الحسنى لا تدل على المعاني، وهذا يشبه قول من يقول بأنها تقال بالاشتراك اللفظي، وأصل غلط هؤلاء شيئان: إما نفي الصفات والغلو في نفي التشبيه، وإما ظن ثبوت الكليات المشتركة في الخارج، فالأول هو مأخذ الجهمية ومن وافقهم على نفي الصفات، قالوا: إذا قلنا: عليم يدل على علم، وقدير يدل على قدرة؛ لزم من إثبات الأسماء إثبات الصفات. وهذا مأخذ ابن حزم؛ فإنه من نفاة الصفات مع تعظيمه للحديث والسنة والإمام أحمد، ودعواه أن الذي يقوله في ذلك هو مذهب أحمد وغيره، وغلطه في ذلك بسبب أنه أخذ أشياء من أقوال الفلاسفة والمعتزلة عن بعض شيوخه، ولم يتفق له من يبين له خطأهم، وَنَقَل المنطق بالإسناد عن متَّى الترجمان» انتهى.
منهاج السنة النبوية (٢/ ٣٥٣).
وقال ابن كثير -رحمه الله-: «كان كثير الوقيعة في العلماء بلسانه وقلمه، فأورثه ذلك حقدًا في قلوب أهل زمانه، وما زالوا به حتى بغضوه إلى ملوكهم، فطردوه عن بلاده، حتى كانت وفاته في قرية له في شعبان من هذه السنة، وقد جاوز السبعين، والعجب كل العجب منه أنه كان ظاهريًّا حائرًا في الفروع، لا يقول بشيء من القياس لا الجلي ولا غيره، وهذا= =الذي وضعه عند العلماء، وأدخل عليه خطأ كبيرًا في نظره وتصرفه، وكان مع هذا من أشد الناس تأويلًا في باب الأصول، وآيات الصفات وأحاديث الصفات؛ لأنه كان أولًا قد تضلع من علم المنطق، أخذه عن محمد بن الحسن المذحجي الكناني القرطبي، ذكره ابن ما كولا وابن خلكان، ففسد بذلك حاله في باب الصفات» انتهى.
البداية والنهاية (١٢/ ١١٣). وينظر: طبقات علماء الحديث. لابن عبد الهادي (٣/ ٣٤٩).
وقال أعضاء اللجنة الدائمة: «من العلماء المبرزين في الأصول، والفروع، وفي علم الكتاب والسنة، إلا أنه خالف جمهور أهل العلم في مسائل كثيرة أخطأ فيها الصواب؛ لجموده على الظاهر، وعدم قوله بالقياس الجلي المستوفي للشروط المعتبرة، وخطؤه في العقيدة بتأويل نصوص الأسماء والصفات أشد وأعظم» انتهى.
فتاوى اللجنة الدائمة (١٢/ ٢٢٣).

<<  <   >  >>