قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: «{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣)} [الفرقان: ٢٣]، وهذا يوم القيامة، حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من خير وشر، فأخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال -التي ظنوا أنها منجاة لهم- شيء؛ وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي، إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصًا وعلى الشريعة المرضية، فهو باطل. فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معًا، فتكون أبعد من القبول حينئذ؛ ولهذا قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣)} [الفرقان: ٢٣]» (١).
[العلة الثانية]
أراد لقمان بيان وجوب تقديم التصفية على التربية والتخلية على التحلية، وهذه قاعدة عظيمة من قواعد التربية، فإذا أردنا أن نربي أبناءنا على التوحيد الخالص فلا بد أولًا من تصفية العقائد الشركية والكفرية وأمرهم بنبذها والبراءة منها ومن أهلها، ومن ثَمَّ نأمرهم بتحقيق التوحيد وإخلاص الوجه لله سبحانه، ومن أراد أن يزينهم بزينة الإيمان لا بد أولًا أن يخليهم من نواقضه ويجنبهم إياها ويبغضهم فيها ويداوم على تحذيرهم منها ويزجرهم عنها، ومن أراد أن يحليهم ويجملهم بالفضائل ومكارم الأخلاق ومحاسن الصفات وجميل الفعال فلا بد أولًا أن ينهاهم عن الرذائل ويجنبهم سيئ الفعال ورديء الأخلاق، وهذا ما فعله هذا العبد الحكيم لقمان -عليه السلام- مع ولده.
ولقمان هنا يوجه المربين والدعاة والمصلحين من بعده إلى خطر الشرك وعظم شأن التوحيد، وأن تصحيح المعتقد مقدم على كل أمر ذي بال في العملية التربوية، سواء كان في الجانب التعبدي، أو الجانب الأخلاقي، أو الجانب الدعوي، أو الجانب الاجتماعي، أو في غير ذلك من الجوانب التربوية والإصلاحية، وأن صلاح هذه الجوانب وإرساء قواعدها التربوية في نفوس الناشئة متوقف على سلامة وصحة المعتقد المتمثل في نبذ الشرك وتحقيق التوحيد كما تبين معنا ذلك آنفًا.
ولذا كان من حكمة لقمان -عليه السلام- أن بدأ موعظته لابنه بالنهي عن الشرك والتحذير منه قبل الأمر ببقية الفضائل من بر الوالدين وطاعتهما في المعروف ومراقبة الله وخشيته وبقية الفضائل الواردة في موعظته، وهذه هي قاعدة التخلية