[شرح أثر مالك بن أنس: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول)]
ثم قال المصنف رحمه الله تعالى أيضاً: [سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، فقيل: يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] ، كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم أمر بالرجل فأخرج] .
الإمام مالك ولد سنة (٩٣ هـ) ، وتوفي سنة (١٧٩ هـ) ، والإمام مالك رحمه الله تعالى عاصر بعض البدع التي وجدت في عهده، فدخل عليه في أحد الأيام رجل وهو في المسجد في الحلقة، فقال: يا أبا عبد الله!: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] ، كيف استوى؟ إذاً: عندنا أمران: الأمر الأول: أن السائل يعلم بأنه ورد في القرآن إثبات الاستواء، وأنه دل عليه قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] .
الثاني: أن السؤال إنما هو على الكيفية؛ لأنه قال: كيف استوى؟ ونحن نقول هذا الكلام لأن جواب الإمام مالك فسره المخالفون لأهل السنة والجماعة تفسيراً خاطئاً، فالإمام مالك قال: (الاستواء غير مجهول) وفي بعض الروايات أنه قال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول) ، وهنا قال: (والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) .
فالإمام مالك قال: (الاستواء غير مجهول) يعني أن معنى الاستواء كما نفقهه، ونحن خوطبنا باللغة العربية، فهذا الاستواء معلوم لنا غير مجهول، لكن ما هو الشيء الذي نجهله ولا نعقله؟
الجواب
هو الكيف، لأننا لا نعلم كيف الله فكذلك لا نعلم كيف صفاته سبحانه وتعالى.
وبعض الذين ينكرون استواء الله ويتأولونه بالاستيلاء يجيبون عن هذا ويقولون: إن قول الإمام مالك: (الاستواء معلوم) يعني أنه مذكور في القرآن، فنقول لهم: لو كان قصد الإمام مالك أن الاستواء مذكور في القرآن لاكتفى بكلام السائل؛ لأن السائل أولاً قال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] كيف استوى؟ ولكان قوله: (الاستواء معلوم) كلاماً لا قيمة له، ولكن السائل سيقول: أنا ما سألتك إلا وأنا أعلم أن الاستواء مذكور في القرآن، لكن أراد الإمام مالك إثبات وبيان قضية منهج السلف رحمهم الله تعالى، ألا وهي أن الاستواء معلوم، أي: نحن نعلم معنى الاستواء بما خوطبنا به في اللغة العربية؛ فإنه بمعنى: علا، وارتفع، واستقر، وصعد، هذه هي الألفاظ الواردة عن السلف رحمهم الله تعالى، وعلى هذا فإن الاستواء معلوم، وأما كونه مذكوراً في القرآن فهذا أمر بدهي، ولا يمكن أن يغفل عنه الإمام مالك، والسائل نفسه ذكر أن سؤاله إنما هو عن الكيفية، والكيفية غير معقولة.
وهذا هو منهج السلف رحمهم الله تعالى؛ فإنهم يثبتون الصفات لله سبحانه وتعالى إثباتاً حقيقياً، ويثبتون ما دلت عليه من معانٍ، ويقولون: إن الكيفية لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (والإيمان به واجب) ، أي: أن إثبات الاستواء على منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى واجب، ولا يجوز تأويله.
وقوله: (والسؤال عنه بدعة) ، أي أن السؤال عن كيفية الاستواء بدعة، وليس المقصود به السؤال عن إثبات الاستواء؛ لأنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث قال فيه: (إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا) ، فهل معنى ذلك ألا نتكلم عن الإيمان بالقدر، ولا نتكلم عن فضل الصحابة؟ الجواب: لا، وإنما المقصود أنه إذا ذكر القدر وخاض فيه الخائضون بالباطل فلا نتكلم، وإنما نكل الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، لكن إثبات الإيمان بالقدر أصل من الأصول؛ بل هو ركن من أركان الإيمان، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (وتؤمن بالقدر خيره وشره) .
إذاً: قوله هنا: (أمسكوا) أي: عن الخوض فيه بالباطل، وهكذا ذكر الصحابة، هل معنى ذلك أننا لا نذكر الصحابة بشيء أبداً؟ الجواب: لا، وإنما المقصود أنه إذا ذكر الصحابة وتكلم فيما وقع بينهم كما هو ديدن كثير من أهل البدع، فيجب علينا أن نمسك، وألا نخوض في ذلك، وأن نكل ما جرى بينهم إلى الله سبحانه وتعالى، كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
وقوله: (ثم أمر بالرجل فأخرج) ، أي: أن الإمام مالكاً أمر بهذا الرجل فأخرج تأديباً له وتعليماً لأصحابه؛ لأن أهل البدع يجب ألا يمكنوا من نشر بدعهم، وهذا هو منهج السلف الصالح، فبعض الناس يظن أن فتح الحوار يدل على منهج علمي واقعي، وأنه ينبغي أن يفتح الإنسان الحوار لكل من هب ودب، فمن كان من هؤلاء من أهل البدع فإنه حينما يكون هناك قدرة للمتمسكين بمنهج أهل السنة والجماعة فيجب عليهم ألا يتهاونوا، فـ عمر رضي الله عنه وأرضاه ما ترك صبيغ بن عسل يتكلم بالمتشابهات، وإنما أتى له بعراجين النخل وضربه حتى قال: والله يا أمير المؤمنين لقد ذهب عني الذي أجد.
لكن إذا وجدت البدعة وابتلي بها المسلمون، ولم يكن للمسلمين من أهل السنة والجماعة قدرة على منع الخوض فيها، فحينئذ تشرع مناقشتهم لا أن نفتح نحن الحوار ونقول: تعالوا لنشر بدعكم؛ وذلك لأن البدعة قد يصوغها صاحبها ولا يستطيع الجواب عنها، فتثير في النفس شكاً وريبة، فكيف إذا كان هذا يقع عند المتعلمين؟ فكيف بالعوام؟ وكيف بالنساء؟ وكيف بغيرهم؟ فمثلاً: لو أن إحدى البدع تقام في التلفزيون، ويشاهدها الأطفال والنساء وغيرهم، ونقول لصاحبها: نفتح معك الحوار، وهذا يصلح وهذا يرد، فهذا لا شك أنه سيؤدي إلى بلاء قذر.
فمنهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى هو بيان الحق وبيان العقيدة بأدلتها؛ حتى تؤمن النفس ويصفو إيمانها، ولا يخوضون في ذلك إلا عند الضرورات وعند الحاجة، وحينما يكون هناك خطر لا يمكن رده إلا بالنقض والبسط، كما فعل أئمة السلف رحمهم الله تعالى في القرن الثالث والرابع وما بعدهما.