للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حجية خبر الواحد العدل والعمل به في العقائد والأحكام]

ثم قال: (أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن) ، أي: ما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نأخذ به في باب الاعتقاد، ومن ذلك إثبات الصفات لله تبارك وتعالى، وهذا هو بيت القصيد في منهاج أهل السنة والجماعة، وهو القضية الكبرى التي هي من القضايا والأصول الكبار التي ميزت أهل السنة والجماعة عن غيرهم من الطوائف، ألا وهي: حجية خبر الآحاد في العقيدة.

وأقول بهذه المناسبة: إن القول بأن خبر الآحاد إذا صح وتلقي بالقبول يفيد العلم، ويحتج به في باب الاعتقاد، كما يحتج به في باب الأحكام، هو الأصل الذي عليه جماهير السلف رحمهم الله تعالى وجماهير الأئمة، وقد ألفت في هذا الموضوع رسائل مطبوعة، فللشيخ الألباني رسالة، وللدكتور عمر الأشقر رسالة، وللشيخ سليم الهلالي أيضاً كتاب اسمه (الأدلة والشواهد بحجية خبر الواحد) وللشيخ ابن جبرين حفظه الله تعالى رسالة في حجية خبر الواحد وإن كانت في أصول الفقه إلا أنه أيضاً تطرق لقضية الاحتجاج بها في أصول الاعتقاد؛ وأوسع من تكلم في ذلك على حد علمي هو ابن القيم رحمه الله تعالى في آخر (مختصر الصواعق) ؛ فإن المائة صفحة الأخيرة من (مختصر الصواعق المرسلة) كلها في بيان هذه القضية، وقد تميز رحمه الله تعالى بأنه أصل القضية من أساسها تأصيلاً قوياً، وأرجعها إلى قضية شهادة أن محمداً رسول الله، وإلى قضية تبليغ الرسول لهذا الدين، وقضية أن هذا الدين كامل وباقٍِ، وإلى قضايا أخرى، وذكر عدداً من الأدلة الدالة على إفادته العلم وعلى حجيته في باب الاعتقاد وفي غيره.

وهذا الذي عليه جماهير الأئمة المتقدمين رحمهم الله تعالى هو الذي يجب أن نسوقه حينما نحكي الخلاف في هذه القضية؛ لأن الذي دعانا إلى بيان هذه المسألة المهمة هو ما اطلعت عليه في كتب أصول الفقه للأئمة المتأخرين، ومما يؤسف له: أن بعض من بحث هذه المسائل ممن كتب في أصول الفقه اعتمد على كتب الفقه التي ألفها أولئك الأئمة! فهؤلاء حكوا الخلاف بحسب ما يعلمونه هم، ولما كانت كتب أصول الفقه في غالبها أن من كتبها هم من أئمة الاعتزال أو الأشاعرة أو الماتريدية تأثر مؤلفوها بخلفياتهم الكلامية في كثير من قضايا العقيدة، ومنها هذه القضية التي معنا، وهي حجية خبر الآحاد وإفادته العلم.

وأقول لكم أيها الإخوة: إن الكتب الكبار التي هي مراجع ألفها غير أئمتنا، منها: (المعتمد في أصول الفقه) والكتاب مطبوع، وهو لـ أبي الحسين البصري، وهو معتزلي، و (المحصول في أصول الفقه) للفخر الرازي، وهو أشعري، و (المستصفى) للغزالي، وهو أشعري، و (البرهان في أصول الفقه) للجويني، وهو أشعري، و (العدة في أصول الفقه) لـ أبي يعلى، وكذلك كتاب (الإحكام في أصول الأحكام) للآمدي، وهذان حنبليان، ولكن الآمدي أشعري، وبالنسبة أيضاً لصاحب (العدة) أبي يعلى يميل كثيراً إلى مذهب الأشاعرة، وهكذا كثير من كتب أصول الفقه ألفها أئمة إما ماتريدية أو أشاعرة أو معتزلة؛ فلما حكى هؤلاء الخلاف في هذه القضية التي معنا -وهي حجية خبر الآحاد في العقيدة- حكوها بطريقة ينبغي أن يوقف عندها؛ فقالوا: اختلف العلماء في قضية إفادته للعلم، ومن ثَّم في حجيته للعقيدة، على قولين: فقال جماهير العلماء: إن أخبار الآحاد تفيد العلم ولا يحتج بها في العقيدة، والقول الثاني -وهو رواية عن الإمام أحمد -: إنها تفيد العلم، ويحتج بها في العقيدة، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أنه يكاد يسخر من مذهب الإمام أحمد بن حنبل؛ لقوله إنها تفيد العلم، فقال: ويلزمه أن كل خبر واحد يفيد العلم، يعني: أنه يلزمنا أن أي واحد وأي شخص كان يأتيك بخبر فخبره يفيد العلم، فنقول: هناك فرق بين خبر أي واحد ونقل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تروى بالأسانيد الصحيحة، وما عمله علماء الإسلام في الجرح والتعديل وفي غيره إلا لبيان وتوضيح هذه القضية؛ ومن ثمَّ تكلموا في الرجال، وتكلموا في لقاء الرواة بعضهم لبعض، وصحة السماع، والشذوذ والعلة إلى آخره؛ ففرق بين الحديث المصفى الذي ينظر فيه الأئمة فيقولون: هذا إسناد صحيح متصل، رواته عدول ضابطون، ليس فيه شذوذ ولا علة، فإن هذا الحكم ما جاء بسهولة، وإنما جاء من خلال دراسات وبراهين.

فـ البخاري لما اختار صحيحه اختاره من ألوف مؤلفة من الأحاديث والروايات، وانتقى أصحها، وكذا الإمام مسلم، وكذا غيرهم، وإذا درسنا أسانيد من لا يلتزم الصحيح وتبين لنا صحة أسانيده فنقبلها؛ لذلك فنحن نقول كما قال كثير من الأئمة: إن الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول -أي: لم ينتقدها العلماء الجهابذة- تفيد العلم، ويحتج بها في العقيدة؛ فكيف يأتي هذا ويجعل قول الجمهور هو هذا، ثم يجعل القول بأنها تفيد العلم ويحتج بها في العقيدة قولاً ضعيفاً هزيلاً؟! لذلك فإننا نقول: إن حكاية الخلاف في هذه المسألة التي معنا هي كما يلي: جماهير الأئمة يرون أنه يفيد العلم ويحتج به في باب العقيدة.

وخالف في ذلك بعضهم فقال: يفيد الظن ويحتج به في العقيدة، كما قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى، فخلاف لفظي، لكنه انتهى في النهاية إلى النتيجة نفسها لما قال: يحتج به في باب العقيدة.

وبعضهم قال أيضاً: لا يفيد العلم، ولا يحتج به في باب العقيدة.

لكن مذهب جماهير العلماء وهو إجماع الصحابة ويكاد أن يكون إجماع التابعين رحمهم الله تعالى هو أنها تفيد العلم، ومن ثَّم يحتج بها في باب العقيدة؛ ولهذا لم يفرقوا في روايتهم لهذه الأحاديث بين أحاديث العبادة وبين أحاديث العقيدة.

إذاً: ما ابتدعه المبتدعة من المعتزلة ومن غيرهم حين قالوا: إنه لا يحتج بأحاديث الآحاد في باب العقيدة معناه: سلخ لجزء كبير من نصوص الاعتقاد، ولا شك أن هذه المقالة مقالة باطلة، وليس هذا موضع تفصيلها، فارجعوا إلى المراجع والكتب التي ذكرتها قبل قليل.

إذاً: منهاج أهل السنة والجماعة هو: أن كل ما جاء به القرآن أو صح عن المصطفى عليه الصلاة والسلام من صفات الرحمن فإنه يجب الإيمان والتصديق به، ويجب تلقيه بالتسليم والقبول؛ فإذا صح الإسناد ودرسناه ولم يعترض عليه أحد من الأئمة، فنأخذه ونتلقاه بالقبول، لأن هذا الذي وصلنا من طريق هؤلاء الأئمة العدول هو المنقول عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولو رددنا هذه الأحاديث لكان ذلك مدخلاً لأن نرد أيضاً أحاديث الأحكام، كما فعلت بعض الطوائف وقالت: ما دام حديث الآحاد محكماً فكيف نأخذ به في أمورنا كلها؟ ولذا كان الأئمة رحمهم الله تعالى لا يفرقون، ولما قيل لـ إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى: تروي حديث النزول؟! فقال: نعم أرويه.

فقيل: كيف تروي حديث (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) ؟! وكأن السائل توهم أن فيه نوعاً من تشبيه أو مما لا يليق أن ينسب إلى الله سبحانه وتعالى! فانتفض إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى وقال: هذه الأحاديث والروايات هي التي بها نحلل الدماء وبها نحرم، بها نحلل الفروج وبها نحرم، بها نحلل الأموال وبها نحرم، فكيف نأخذ بخبر الآحاد ونقطع به رقبة نفس معصومة، ثم لا نأخذ به حين يأتي بهذا الإسناد نفسه مخبراً عن صفة من صفات الله تبارك وتعالى؟! لا شك أن هذا عين التناقض.

لذلك أخذ بها الأئمة رحمهم الله تعالى، وعملوا بها، ولم يفرقوا رحمهم الله تعالى بينها؛ حتى إن بعضهم صار يصرح بلفظ الشهادة؛ فإذا ساق إسناداً متصلاً رواته كلهم عدول ثقات أثبات يأتي ويقول: أشهد بالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث! ولا شك أنها ليست شهادة على باطل؛ لأنه بناها على علم، فقد وصل بذلك إلى علم اليقين، أما إذا رفضنا هذه الأحاديث فمعناه أنا رفضنا جزءاً كبيراً من الشريعة، والشيخ رحمه الله تعالى قال: (تتلقى بالتسليم وبالقبول فلا نرد شيئاً منها) .

وقوله: (وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل كما فعل أهل الباطل) هذا ما سنستكمله -إن شاء الله تعالى- في الدرس القادم.

وأستغفر الله العظيم الجليل الكريم لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والحمد لله رب العالمين.

<<  <  ج: ص:  >  >>