ثم إنه رحمه الله تعالى علل ذلك بتعليل دقيق جداً فقال:[فإنهم عن علم وقفوا] .
وهذه العبارة عبارة منهجية في الصميم، تبين منهج أهل السنة والجماعة.
فإنهم عن علم وقفوا وليس عن عجز، وبعض المتكلمين المتأخرين الذين ابتدعوا الكلام إذا قيل لهم: إن السلف ما تحدثوا عن ذلك، قالوا: كانوا مشغولين بالجهاد.
بل إن بعضهم قد يتهم الصحابة ومن بعدهم بأنهم لم تكتمل عقولهم ومعرفتهم العقلية واطلاعهم على القضايا المنطقية، أي أنه يقول: لو اطلعوا على ذلك لتكلموا هذا الكلام.
وهذا القول قول غير صحيح إطلاقاً، كما قال عمر بن عبد العزيز:(فإنهم عن علم وقفوا) ، بمعنى: أن السلف الصالح رحمهم الله تعالى سلكوا ذلك المسلك في باب الأسماء والصفات عن قناعة منهجية علمية، وليس كما يزعم البعض أن هؤلاء السلف إنما يسمعون النصوص وينقلونها كما سمعوها فقط، بل أولئك السلف سمعوا النصوص وفهموها وعرفوا مدلولاتها وأثبتوها، بل هم أرجح الناس عقلاً، وأعظم الناس فهماً، وأكمل الناس ديناً وتقوى، ومن ثمَّ كان فهمهم أصح الأفهام، وعلمهم أعمق العلم وأدقه بالنسبة لمن بعدهم.
فهم لما جاءتهم هذه النصوص نظروا إليها بالميزان الصحيح، فوجدوا أن هذه الأمور إنما هي أمور إخبارية تتعلق بالله وأسمائه وصفاته، والخبر عن الله وأسمائه وصفاته مما لا تدخل في مجاله العقول؛ فإن البشر مهما أعملوا عقولهم فلا يمكن أن يصلوا إلى هذه الحقائق، فلما كان الأمر كذلك وكلوا كيفية الاطلاع والعلم بهذه الأمور إلى الخبر الصادق، فوجدوا أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها البيان فأثبتوها.
إذاً: المنهج الحق العلمي الصحيح لأهل السنة والجماعة ليس هو أن تعمل عقلك في كل شيء، وأن تزعم بأن إعمال العقل في كل الأمور هو دليل عمق الفهم ودقة التعبير والتحصيل ونحو ذلك، وإنما المنهج الصحيح هو أن تعطي كل ذي حق حقه، فإذا كان هناك خبر عن غائب فأنت والحالة هذه يجب أن تأخذ الخبر من مصدره؛ لأنه لا مجال لذلك الخبر بالنسبة لعقلك، مهما أعملت فكرك فيه، وهذه قضية منهجية.
وأما في المجالات الأخرى، التي للعقل فيها مجال فإنهم أعملوا عقولهم، وعمروا الدنيا، وخططوا إدارياً وعسكرياً واقتصادياً وسياسياً، بل إن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كتبت كتابات مستقلة -وهو قائل هذه العبارات- عن مناهجه في هذا الباب، وفي هذه الأمور كلها، وقبله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً: في المجال الذي يفيد المسلمين وللعقل وللتفكير فيه مجال فكروا وأنتجوا ما ينفع المسلمين، لكن المجال الذي مهما أعمل الإنسان فيه عقلاً لم ينتج وقفوا.