للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلا وسع الله عليه]

قال ابن قدامة رحمه الله تعليقاً: [وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، والأئمة من بعدهم، والراسخين في العلم، من تلاوة آيات الصفات وقراءة أخبارها وإمرارها كما جاءت؛ فلا وسع الله عليه] .

فما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون لهم بإحسان يجب أن يتبع.

وقوله: (بإحسان) ؛ لأنه قد وجد في التابعين من كان منحرفاً، لأنه لم يتبع الصحابة رضي الله عنهم بإحسان، فلا يتبع.

وقوله: (والأئمة من بعدهم والراسخين في العلم) ، ولا شك أن من أعظم علامات الرسوخ في العلم هو أن يرجع الإنسان فيما لم يعلم إلى من يعلم؛ ولهذا كل من كان راسخاً في العلم فإنه يقول عن الشيء الذي لا يعلمه: لا أدري؛ فالإمام مالك وهو الإمام مالك سئل عن أربعين مسألة؟ فأجاب عن أربع، وقال عن ست وثلاثين منها: لا أعلم، فكيف بباب أخبار الصفات؟ فالراسخ في العلم هو الذي يقف عند الخبر الصادق، وهذا لا شك أنه من أعظم الرسوخ في العلم.

وقوله: (من تلاوة آيات الصفات) ، يعني: الواردة في القرآن العظيم.

وقوله: (وقراءة أخبارها) أي: أخبار الصفات الواردة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان الأئمة يتلون القرآن، ويعلَّمونه الناس، وإذا مروا على آيات الصفات لا يعطلونها ولا يشبهونها، وإنما يثبتونها، لكن جاء من بعدهم وقال: إذا جئتم عند قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:٢٧] وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] قال: قفوا ولا تفهموا من الآية ظاهرها؛ لأن هذه الآية لو وقفنا عند ظاهرها لوقعنا في التشبيه، ولذا يقول: استوى بمعنى استولى، ووجهه بمعنى ذاته؛ وهكذا يعمل فيها تأويلاً، والأئمة من قبله كانوا يقرءونها ويتلونها ويفسرونها بلا تأويل.

وكذلك أيضاً قراءة أخبار الصفات: كان الأئمة يحدثون بالأحاديث ولا يفرقون بين أحاديث الأحكام وأحاديث الصفات، وإنما كانوا يحدثون بها جميعاً؛ وتعلمون أن مناهج الأئمة في تخريج الحديث على أقسام: منهم من صنف الحديث على الأبواب، مثلما فعل البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم، فهؤلاء بوبوا: الصلاة الزكاة الإيمان القدر إلى آخره.

ومنهم من ذكر الأحاديث حسب الأسانيد، إما حسب أسانيد الصحابة، مثل مسند الإمام أحمد وغيره من المسانيد، أو حسب معجم شيوخه، مثل معجم الطبراني في الصغير، فالذي ذكر أسانيد الصحابي -كالإمام أحمد بن حنبل مثلاً- يذكر كل مرويات هذا الصحابي، ولا يفرق بين العقيدة ولا بين غيرها، ولا يقول: لا تقل إلا أحاديث الأخبار والأحكام فقط، أما أحاديث الصفات فهذه أمرها عظيم، ونخاف أن تشبهوا، ونخاف أن تمثلوا، لم يقل أحد منهم ذلك، بل كانوا يقرءونها ويوردونها ويتلونها ويحدثون بها، ولا يفرقون بينها وبين غيرها من الأحاديث، وهذا منهجهم.

ثم قال: (وإمرارها كما جاءت) ، ثم دعا عليه في الأخير فقال: (فلا وسع الله عليه) .

قوله: (إمرارها كما جاءت) سبق أن شرحناها في عبارة سابقة، أي: أنهم يوردونها كما جاءت بالإثبات؛ فيثبتونها ويثبتون ما دلت عليه من معنى، لكن كيفية هذه الصفة يفوضون علمه إلى الله سبحانه وتعالى، وكما قلنا سابقاً: فإن عبارة أمروها كما جاءت، أو تمر كما جاءت ليست حجة لأهل التفويض؛ لأن الأئمة ذكروها حتى في غير باب الصفات، وقد سبق شرح ذلك في الدرس الأول.

ونقف عند ما ذكره من نماذج الصفات، ونستكمل -إن شاء الله- في الدرس القادم.

<<  <  ج: ص:  >  >>