ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:٥]] .
الضمير في قوله:(ومن ذلك) عائد إلى ما سبق قبل قليل، وخاصة إلى قوله:(وكل ما تخيل في الذهن أو خطر بالبال فإن الله تعالى بخلافه) ؛ لأن صفة الاستواء لله سبحانه وتعالى التي دل عليها قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:٥] وآيات أخرى قد يخطر ببال الإنسان أن استواء الله على العرش كاستواء المخلوق؛ أو أن الله محتاج إلى العرش كاحتياج الخلق أو كاحتياج الملك أو نحو ذلك.
فقال هنا:(ومن ذلك) أي: ومن ذلك الذي نثبته لله ولا يكون شبيهاً بصفات المخلوقين، صفة الاستواء التي دل عليها قوله تبارك وتعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:٥] .
وصفة الاستواء لله سبحانه وتعالى وردت في سبعة مواضع من القرآن الكريم:(ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) في سورة (الأعراف) وفي سورة (طه) وفي سورة (الحديد) وفي غيرها من المواضع التي ذكر الله سبحانه وتعالى فيها استواءه على العرش، وأهل السنة والجماعة يثبتون لله تبارك وتعالى صفة الاستواء كما يليق بجلاله وعظمته، وهي دالة على علوه تبارك وتعالى، ولهذا فسر السلف رحمهم الله تعالى الاستواء بقولهم: إن معنى استوى: علا وارتفع واستقر وصعد، وهذه الصفة التي هي صفة الاستواء دالة على هذه المعاني؛ فإن الله تبارك وتعالى عالٍ على خلقه، فهي دالة على صفة العلو لله سبحانه وتعالى كما سيأتي بعد قليل.
كذلك أيضاً صفة الاستواء دالة على أن الله سبحانه وتعالى متصف بالصفات الفعلية، أي أنه سبحانه وتعالى مستوٍ على العرش كما يليق بجلاله وعظمته، وأن استواءه تبارك وتعالى من صفات فعله، ولهذا فإن استواءه كان بعد خلق السماوات وبعد خلق العرش، ولهذا عبر عنها بقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}[الحديد:٤] ، وكلمة (ثم) تدل على التأخير؛ فإن الله سبحانه وتعالى ليس مستوياً على العرش في الأزل؛ وإنما استوى على العرش بعد خلق العرش، وبعد خلق السماوات والأرض، ولهذا قال:{الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}[الفرقان:٥٩] ، وهذا الإثبات لهذه الصفة هو إثبات من غير تكييف، ومن غير تمثيل، ومن غير تحريف ومن غير تعطيل، وإنما هو إثبات لصفة الاستواء كما يليق بجلال الله وعظمته.