[كلام السلف رحمهم الله في الحد والغاية]
أحب أن أقف وقفة عند عبارة سابقة سأل عنها البعض، ألا وهي قول ابن قدامة رحمه الله تعالى: [ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه، بلا حد ولا غاية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]] .
ابن قدامة رحمه الله يقرر هنا منهج أهل السنة والجماعة في باب أسماء الله وصفاته، وهو أنهم يثبتون ما أثبته الله وأثبته رسوله من غير نقص، سواء كان هذا النقص بنفي أو تعطيل أو نحو ذلك، ويثبتونها بغير زيادة، فلا يأتون من عند أنفسهم بصفات ولو ظنوها حسنى، ولا بأسماء ولو ظنوها حسنى، فلا يأتون بشيء لم يرد ليصفوا الله سبحانه وتعالى به، بل صفات الله سبحانه وتعالى عمادها التوقيف على ما ورد، أي: أننا نثبت ما ورد إثباته، وننفي ما ورد نفيه، ونتوقف عما لم يرد إثباته ولا نفيه.
ثم إن المصنف هنا قال: (بلا حد ولا غاية) ، ومقصوده رحمه الله أننا نثبت لله سبحانه وتعالى هذه الصفات على ما يليق بجلاله وعظمته، ونقول: إن صفاته ليست لها غاية، أي: ليس لعلم الله غاية ومنتهى، كما أنه ليس لكلام الله سبحانه وتعالى أيضاً غاية ومنتهى، فالله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم، يعلم ما كان وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كما أن كلامه تعالى لا ينقضي، ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} [لقمان:٢٧] ، وفي الآية الأخرى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:١٠٩] .
قال العلماء في تفسير هاتين الآيتين: إن العدد غير مراد، فلا يعني أنه لو جئنا بسبعة أبحر نفدت كلمات الله، بل لو جئنا بسبعة وسبعة وسبعة ما نفدت كلمات الله أبداً، ومعنى الآيتين: أننا لو قطعنا الأشجار التي على الأرض وبرينا غصونها وأعوادها لتتحول إلى أقلام ثم تحول البحر إلى مداد وحبر وكتب بتلك الأقلام بذلك المداد كلمات الله ما نفدت كلمات الله أبداً.
وهذا من عظمة الله سبحانه وتعالى؛ لأن لكل مخلوق منتهى، أما الخالق سبحانه وتعالى فلا منتهى لأمره وعلمه ولا لكلامه سبحانه.
ولهذا فإن ربنا تبارك وتعالى عظيم عظمة لا يمكن أن يتصورها مخلوق، ومهما تصور المخلوق فالله أعظم من ذلك، وأقرب مثال على ذلك أننا إذا قلنا: إن السماوات والأرض كلها بمجراتها وأفلاكها في يد الرحمن سبحانه وتعالى كخردلة في يد أحد، تبين بذلك كيفية عظمة الله سبحانه وتعالى، وكيف أننا لا نستطيع ولن نستطيع أن نقدر قدره سبحانه وتعالى.
وقول ابن قدامة: (إن صفاته نثبتها بلا حد ولا غاية) أي: لا نجعل لصفاته منتهى، فهو العظيم الذي لا عظيم فوقه سبحانه وتعالى.
ولكن كلمة الحد هنا كلمة فيها إجمال، ولهذا ورد عن بعض السلف إثبات الحد لله سبحانه وتعالى، فأين ورد إثبات الحد؟ وما معناه؟ وما هو القول الحق في هذه المسألة؟ نقول: ورد إثبات الحد لله سبحانه وتعالى في باب الاستواء، فقد سئل عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: هل نثبت أن الله على العرش استوى؟ فقال: نعم، نثبت أن الله على العرش استوى.
فقال السائل: بحد؟ قال: بحد.
فما الذي قصده ابن المبارك وغيره من السلف من إثبات الحد لله؟ الذي قصده هؤلاء هو أن يثبتوا الفارق بين المخلوق والخالق، فنحن مخلوقون مربوبون نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى فوقنا، ونصدق بأنه على العرش استوى استواءً يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى.
ولكن قد يخطر ببال بعض عوام الناس، أو ببال بعض الصوفية الحلولية، أو ببال بعض الذين يقولون: إن الله في كل مكان، أن الله عظيم لا منتهى لعظمته، وإذا كان لا منتهى لعظمته في ذاته فإننا مهما تصورنا شيئاً فالله يمكن أن يكون أعظم من ذلك، والنتيجة: أنه لا يصبح هناك فارق بين الخالق وبين المخلوق، فأراد هؤلاء العلماء أن يقرروا البينونة بين الخالق والمخلوق حتى يردوا على الحلولية وعلى الاتحادية وعلى غيرهم من الصوفية الذين لا يفرقون بين الخالق والمخلوق.
فهؤلاء قالوا: نؤمن بأن الله على العرش استوى، ونؤمن ببينونة الله عن خلقه، وهذه البينونة مقتضاها -كما أشار بعضهم- أن يكون لله حد لا يعلمه إلا هو، حتى نفصل بين الخالق وبين المخلوق.
ولهذا سئل بعض السلف: بحد؟ فقال: نعم، بحد لا يعلمه إلا هو، أي: من باب إثبات البينونة بين الخالق وبين المخلوق، أما إذا أطلقنا هذا الأمر على قول هؤلاء العلماء، وقلنا: إن الله عظيم وبلا حد، فقد يتوهم متوهم أن هذه المخلوقات داخلة في الله سبحانه وتعالى.
فأراد أن يبين هذه البينونة التي دلت عليها النصوص الكثيرة من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين الخالق وبين المخلوق.
وبعض السلف رحمهم الله تعالى قالوا: كلمة الحد لم ترد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثمَّ فنحن لا نطلقها، ولا نقول: بحد، وإنما نقول: على العرش استوى، ونثبت لله الصفات، ونتوقف في هذا.
إذاً: انتهينا إلى خلاصة مهمة في هذا الباب مفادها: أن من السلف من لم يطلق لفظ الحد، وكأن عبارة ابن قدامة هنا موحية بهذا القول، ولهذا قال: بلا حد ولا غاية؛ لأن هذا اللفظ لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبعض السلف أثبت الحد لله، لكن حداً لا يعلمه إلا هو سبحانه، وإنما أثبتوه للرد على الحلولية وللرد على كثير ممن ينكر علو الله سبحانه وتعالى واستواءه على العرش، وليثبتوا البينونة بين الخالق والمخلوق، ولهذا نقول: إن لفظ الحد من الألفاظ المجملة، فنستفسر هذا الذي يثبت لفظ الحد: فإن كان يقصد أن الله يحده شيء، فنحن نقول: إن الله سبحانه وتعالى قد أحاط بكل شيء، والله سبحانه وتعالى لا يقدر قدره إلا هو، وإن قصد بلفظ الحد بيان البينونة بين الخالق والمخلوق، وأن الله تعالى على العرش استوى، ليس على الأرض بذاته سبحانه وتعالى، وإنما علمه أحاط بكل شيء، فنقول: المعنى الذي أثبته صحيح، ولكن إثباتك للفظ الحد لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فنلحق لفظ الحد بلفظ الجسم والجهة والحيز ونحو ذلك، ونستفصل قائلها، فإن أراد معنىً صحيحاً قبلنا المعنى، وإن أراد معنىً باطلاً رددنا الكل، ونتوقف في إثبات هذه الألفاظ حتى ترد في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.