[حكم تأويل أسماء الله وصفاته وذكر أقسام التأويل]
قد بينا في الدرس السابق أن منهج السلف الصالح -كما أشار إليه المصنف- قائم على أن الله تعالى يوصف بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأن كل ما ورد في كتاب الله تعالى وفي سنته الصحيحة فإنه يتلقى بالقبول والتسليم، ثم إن المصنف قال في آخر كلامه: [وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل] .
وهذا هو منهج المخالفين لأهل السنة والجماعة؛ فإنهم إذا جاءتهم النصوص يكونون فيها على طرائق: فمنهم من يردها ويقول: حتى ولو جاء الدليل على هذه الصفة أو على هذا الأمر العقدي في كتاب الله أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو غير مقبول، وهذا معنى قول المصنف: (دون التعرض له بالرد) ؛ فأهل السنة والجماعة يقبلون ولا يردون ما ورد من ذلك، ولهذا فإن الرد هو رد النص ورد ما دل عليه النص من صفة ونحوها.
وقوله: (دون التعرض له بالرد والتأويل) أما التأويل فهو: صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به.
هذا هو التعريف المشتهر عند كثير من أهل أصول الفقه وغيرهم، ولكن لفظ التأويل الوارد في الكتاب والسنة وعند السلف الصالح رحمهم الله تعالى يطلق على إطلاقين: أحدهما: أنه بمعنى التفسير، فيقول الإنسان: تأويل الآية كذا، أي: تفسيرها كذا، وهذا منهج ابن جرير الطبري في تفسيره؛ فإنه دائماً يقول: القول في تأويل قوله تعالى، أي: تفسير قوله تعالى.
الثاني: أن التأويل بمعنى الحقيقة التي يئول إليها الشيء، فتأويل صفات الله، أي: حقيقة صفات الله، وتأويل الرؤيا، أي: حقيقة الرؤيا، كما قال الله تعالى عن يوسف أنه قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:١٠٠] ، أي: حقيقة الرؤيا التي رآها أولاً تحققت من خلال ما جرى له عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم؛ ومن هنا فإن هذين المعنيين للتأويل هما المعنيان المشهوران المعروفان عند السلف الصالح.
وأما المعنى الثالث للتأويل وهو الذي ذكرته أولاً وهو الذي قصده المصنف هنا؛ فهو معنىً حدث بعد الافتراق الذي وقع في هذه الأمة، وهذا التأويل له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون الدليل صحيحاً والصارف عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح صحيحاً، ففي هذه الحالة يكون هذا التأويل صحيحاً.
الثاني: أن يكون التأويل لغير دليل، بل أحياناً يكون مخالفاً للدليل، فهذا هو التأويل الباطل، وهو الذي قصده المصنف هنا.
ولهذا قال: (دون التعرض له بالرد والتأويل) ، وهو يقصد رحمه الله تعالى بهذا منهج المنحرفين في باب الأسماء والصفات الذين أولوا النصوص، فيأتي أحدهم -مثلاً- إلى قول الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] ، فيتأول النص الظاهر إلى معنىً آخر بعيد جداً، فيقول: استوى بمعنى: استولى.
ويأتي إلى قول الله تبارك وتعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:٦٤] ، فيقول: اليدان هما القدرة أو النعمة، أو القدرة والنعمة وهكذا، ويأتي على كل صفة ثابتة فيتأولها إلى معانٍ أخرى، وتكون هذه المعاني بعيدة لم يدل عليها النص، وإن دل عليها فدلالة ضعيفة جداً، بل إن تأويله هذا مصادم للنصوص الأخرى، ولمنهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى في إثبات هذه الصفات على ما يليق بجلاله وعظمته، لهذا فإن السلف رحمهم الله تعالى يثبتون الأسماء والصفات لله تعالى كما يليق بجلاله وعظمته دون تأويل، ولهذا قال بعد ذلك: (والتشبيه والتمثيل) ، أي: دون التعرض لها بتشبيه؛ والتشبيه هو أن يجعل صفة من صفات الله تعالى مشبهة لصفة من صفات المخلوقين، أو بالعكس: أن يجعل صفة من صفات المخلوقين مشبهة لصفة من صفات الله تعالى.
والتمثيل: أن يجعلها مماثلة له، فالفرق بين التشبيه والتمثيل: أن التشبيه إنما يكون في بعض الأشياء، وقد لا يكون فيها جميعاً، أما التمثيل فإنه يكون في جميع الأشياء، فإذا قلت: هذا مثل هذا، فأنت تقصد أنه مماثل له تماماً، لكن إذا قلت: هذا يشبه هذا فأنت تقصد أن بينهما شبهاً، وأن بينهما أيضاً فرقاً.
فأهل السنة والجماعة وسط بين أهل التعطيل الذين دخلوا في التأويل والتحريف لنصوص الصفات وأهل التشبيه والتمثيل الذين شبهوا الله بخلقه، وشبهوا صفاته تعالى بصفات خلقه.