يقول ابن قدامة رحمه الله تعالى في كتابه (لمعة الاعتقاد) بعد أن ذكر فصولاً سابقة: [فصل: ومن صفات الله تعالى: أنه الفعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد عن القدر المقدور] .
هذا هو لب القدر وأساسه؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو خالق هذا العالم، خلقه بإرادته، ولم يوجد هذا العالم رغماً عنه كما يقول الفلاسفة: إنه آلة موجدة، تعالى الله عما يقولون، بل خلق هذا العالم وأوجده سبحانه وتعالى بإرادته ومشيئته؛ لأنه تبارك وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء.
ولما كان هذا العالم مخلوقاً له وحده لا شريك له، وخلقه بمشيئته وإرادته، كان هذا دليلاً على أن ما يجري في هذا الكون فهو بمشيئته وإرادته سبحانه وتعالى، وهذه هي القضية الأولى في باب العقيدة، فإنها ترتبط بمرتبتين وأساسين هما صفتان كاملتان لله سبحانه وتعالى، ثبتت له كما يليق بجلاله وعظمته: الصفة الأولى: أن الله متصف بصفة العلم، قد أحاط بكل شيء علماً، فهو علم أزلاً ما الخلق عاملون، وهو سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما أخبر تعالى عن الكفار أنهم في يوم القيامة يطلبون الرجعة، ويقولون: لو أرجعتنا إلى الدنيا لآمنا واهتدينا، قال تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}[الأنعام:٢٨] ، وليس هذا من باب التقدير، وإنما هو من باب العلم اليقيني لله سبحانه وتعالى، فإنه يعلم أنه لو رد هؤلاء إلى الدنيا مرة أخرى لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والشرك، مع يقينهم باليوم الآخر؛ لأنهم شاهدوه مشاهدة عيان، فهذا من باب العلم الإلهي الكامل، فإنه سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون، ويعلم سبحانه وتعالى ما لم يكن لو كان كيف يكون.
والصفة الأخرى لله سبحانه وتعالى هي: صفة المشيئة والإرادة الكاملة، فهو سبحانه وتعالى ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، ومن ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى هنا:(ومن صفاته: أنه الفعال لما يريد) ، والفعال لما يريد هو الذي لا يحد قدرته حاد، ولا يوجه إرادته موجه، فهو يفعل ما يشاء ويختار، ومن إرادته سبحانه وتعالى أن خلق هذا العالم، ومن مشيئته وإرادته أن أوجد الناس على هذه الصفة وهذه الحالة، وابتلاهم واختبرهم، فهو سبحانه وتعالى هو الذي خلق آدم، كما قال سبحانه:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة:٣٠] ، وهو سبحانه وتعالى الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً.
إذاً: وجود هذا العالم على هذه الصفة ووجودنا نحن البشر على هذه الصفة هو بإرادته سبحانه وتعالى، ولو أنه تبارك وتعالى أراد غير ذلك لكان، أي: لو أراد سبحانه وتعالى أن يجعل الناس كلهم مهتدين مستقيمين مؤمنين لا يعصون الله أبداً لوقع ذلك، كما قال تبارك وتعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[الأنعام:٣٥] ، وقال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}[الشورى:٨] .
إذاً: وجود الخلق على هذه الصفة وهذا الابتلاء والامتحان، واختلاف أعمارهم، واختلاف أرزاقهم، واختلاف ألوانهم، واختلاف أديانهم، هو بإرادة الله سبحانه وتعالى، وهذه هي قضية القدر الأولى، فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي أراد أن يوجد الناس على هذه الحالة، ولو شاء لما وجدوا، ولو شاء لأوجدهم وجعلهم كلهم مؤمنين مهتدين مطيعين.