ثم قال: [وروى عبد الله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر الله الخلائق يوم القيامة عراة حفاة غرلاً بهماً) ] .
عبد الله بن أنيس الجهني المدني المتوفى سنة أربع وخمسين هجرية رحمه الله تعالى، أحد الصحابة المعروفين المشهورين.
قوله:(يحشر الله الخلائق يوم القيامة عراة) ، أي: ليس عليهم كساء ولا لباس ولا غطاء، (حفاة) أي: غير منتعلين، (غرلاً) أي: غير مختونين، (بهماً) أي: طليقي الأيدي لا يحملون معهم أي شيء؛ وهذا لبيان أن الناس يبعثون من قبورهم ويحشرون إلى ربهم سبحانه وتعالى وهم على هذه الحالة، كما في حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها حين قالت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فبين لها النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر أكبر وأعظم وأشد من أن يهتموا بهذا الأمر؛ لأن الأمر خطير جداً.
[ (فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان) ، رواه الأئمة، واستشهد به البخاري] .
الشاهد من هذا: قوله: (فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) ، والنداء كما نعلم جميعاً لا يمكن أن يكون إلا بصوت، وهذا فيه إثبات أن الله سبحانه وتعالى يتكلم، وأنه تبارك وتعالى إذا نادى الخلائق يوم القيامة يناديهم بصوت يسمعونه جميعاً، وهذا الحديث ذكره البخاري أيضاً تعليقاً ورواه الإمام أحمد وأبو يعلى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وهو المشهور، وهو الوارد في قصة رحلة جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه حين التقى بـ عبد الله بن أنيس في مصر حين رحل إليه شهراً كاملاً؛ ولهذا ذكره البخاري في كتاب العلم في الباب الذي عقده في مسألة الرحلة في طلب الحديث، لكنه رحمه الله تعالى ذكره معلقاً.
وهذا الحديث رواه البيهقي، ورواه البخاري في الأدب المفرد، وهو حديث صحيح، ومن ثمَّ فإن الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى لما تعرض لمسألة إثبات صفة الكلام لله وأنه بصوت، نقل كلام بعض الأشاعرة وتأويلهم للأحاديث الواردة في ذلك، وتضعيفهم لهذه الرواية، وقولهم: إن كلامه تعالى ليس بصوت، فبعد أن نقل كلامهم علق عليه بقوله: والحديث إذا ورد بالطرق الصحيحة فإنه يؤخذ به.
وكأنه يقول: ما دام إثبات الصوت لله تعالى ثبت في الأحاديث الصحيحة فلا داعي للمماحكة؛ لأنه ورد بأسانيد صحيحة، وكأن ابن حجر رحمه الله تعالى إنما يرد على أولئك الذين ضعفوا هذه الرواية بناءً على مذهبهم في إثبات الكلام النفسي لله، وأن كلامه عز وجل ليس بحرف ولا صوت، فبناء عليه بحثوا عن الحديث فوجدوا أن البخاري رواه معلقاً، فضعفوا هذه الرواية لهذا السبب، فـ ابن حجر المحدث غلب عليه رحمه الله تعالى هنا جانب الحديث، فرد على أولئك وقال لهم: لا تتعرضوا لتضعيفه من أجل ذلك المعنى الكلامي الذي تريدونه، بل إذا ثبت أمر في الأحاديث الصحيحة فيجب أن تقولوا به، ثم بعد ذلك ابحثوا له عن التأويل، لكن لا تضعفوه وتردوا الحديث؛ لأجل أنه خالف ما عندكم.
ومنطق ابن حجر هذا عظيم جداً، مع أنه رحمه الله تعالى من المائلين إلى مذهب الأشاعرة في كثير من المسائل، إلا أنه هنا وقف وقفة الإمام المحدث، وهذا هو الصحيح، ولهذا فإن هذه الرواية صحيحة، ولا كلام فيها، وحتى لو فرض أن البخاري رحمه الله تعالى علق مثل هذه الرواية فإنه لا يطعن فيها؛ لأنها رويت عند غيره بأسانيد صحيحة، بل إن إثبات أن كلام الله بصوت وارد بأدلة كثيرة جداً، ولا يمكن أن يقول قائل: إن موسى عليه الصلاة والسلام سمع كلام الله بلا صوت، ومن قال ذلك فإنه قال ما لا يعقل.