للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[منازعة القدر بالقدر]

ثم أقول أخيراً: إن الإنسان ينتقل من قدر إلى قدر، ولا يمكن لإنسان أن يسلم بالقدر ويسكت، وإلا عد مجنوناً، بمعنى: أن الإنسان إذا أصابه الجوع، فجوعه بقدر، فهل يمكن أن يعتمد على القدر ويقفل على نفسه الغرفة ويقول: إذا كتب الله لي أن أتعشى تعشيت؟! لا يمكن! إذاً: ما الذي يصنعه هذا الإنسان؟ الذي يصنعه هذا الإنسان أن يذهب ليأكل، وأكله بقدر، وسعيه بقدر، وإن عطش فعطشه بقضاء وقدر، فهل يسلم ويسكت، ويقول: إذا كتب الله علي أني سأروى رويت؟ لو قال هذا إنسان وأقفل على نفسه لعد مجنوناً.

إذاً: ما الذي يصنعه الإنسان بحسب طبعه وما قدره الله عليه؟ على الإنسان أن يذهب لينازع قدر العطش والجوع بقدر الري والشبع، وهكذا بقية الحياة، فلو جاء إنسان وقال: بعض الناس يقول لي: تزوج، لكن أنا مؤمن بقضاء الله وقدره، فإن كتب الله لي أولاداً فسيأتيني أولاد، وإن لم يكتب الله لي أولاداً فلن يأتيني أولاد! فماذا يقال عن هذا الشخص؟ أظن أنه سيقال عنه: إن عقله فيه نقص؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بفعل الأسباب.

ومثله المزارع لو ترك مزرعته أرضاً ليس فيها حب ولا بذر ولا سقاء، ثم قال: إن كان هذا العام سيكون في مزرعتي نتاج وزراعة فسيكون وإلا فلا! فنقول له: أنت مجنون، لا بد أن تبذر، وأن تسقي، وأن تفعل الأسباب، وقد يحصل لك ذلك، وقد لا يحصل.

ولهذا فإن الإنسان مأمور بأن ينازع القدر بالقدر دائماً، ففي كل لحظة هو في قدر، فعليه أن ينازعه بقدر آخر، وهذه حياة الإنسان.

لكن الفرق بين المؤمن والكافر، وبين المطيع والعاصي: أن المؤمن بالله ينازع القدر بقدر على وفق الشرع، وذاك ينازع القدر بأي قدر، فمثلاً: لو أن إنساناً أصابه قدر الجوع فلينازعه بقدر الشبع، لكن المؤمن هو الذي يشبع على وفق شرع الله بما أباح الله له، فلا يذهب ليسرق طعاماً حراماً، ولا يأكل طعاماً حرمه الله، كخنزير أو خمر أو غير ذلك.

إذاً: المؤمن ينازع القدر بالقدر، لكن على وفق شرع الله، وهذا هو التلازم بين الشرع والقدر.

وبهذا تستقيم حياة الإنسان؛ لأنه بتسليمه بالقضاء والقدر والإيمان بحكمته سبحانه وتعالى، وبأن الله عدل لا يظلم، وأن الله غني عن العالمين، إذا تكاملت هذه الجوانب صار الإنسان خائفاً راجياً، يفعل الطاعات ويرجو من الله سبحانه وتعالى أن يتقبلها ويثيبه عليها، وإذا وقع في ذنب لا يحتج؛ لأنه لا حجة له على ربه، وإنما يعترف بذنبه وتقصيره، ثم يستبدل بتلك المعصية طاعة وحسن عمل، هذه هي حال الآمنين المستقيمين، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا منهم.

وقوله: (ونعلم أن الله سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك) وهذا كما بينا سابقاً، أما غير المستطيع مثل المكره أو فاقد الإرادة أو المجنون فهذا لا يحاسب، ولا يؤمر ولا ينهى، بمعنى: أنه غير مكلف.

قال: (وأنه لم يجبر أحداً على معصية، ولا اضطره إلى ترك طاعة) وهذا مقطوع به؛ فإن الله تعالى ما أجبر أحداً، كما قال سبحانه: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:٢٨] ، فكل إنسان له مشيئة، لكن مشيئة العباد خاضعة لمشيئة الله؛ لأن الله لو شاء لجعل الناس كلهم مهتدين.

<<  <  ج: ص:  >  >>