بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فسنبدأ -إن شاء الله تعالى- شرح رسالة من رسائل السلف رحمهم الله تعالى في العقيدة ألا وهي رسالة:(لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد) للإمام موفق الدين بن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى.
مؤلف هذه الرسالة هو الإمام الفقيه أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي الصالحي، وهذا الإمام اشتهر لدى العلماء بأنه صاحب (المغني) ؛ لأن كتابه (المغني) في الفقه يعتبر أوسع موسوعة في مذاهب العلماء وأقاويلهم في مسائل الشريعة الإسلامية؛ فإنه جمع رحمه الله تعالى في هذا الكتاب العظيم الفريد في بابه بين ذكره لأقاويل الصحابة وأقاويل كبار التابعين وتابعيهم، ثم أيضاً ذكره لأقوال الأئمة الأربعة: الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد، بل وكبار أصحابهم رحمهم الله تعالى، وأيضاً استقصى رحمه الله تعالى الروايات داخل مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
ثم إنه أيضاً اعتمد على ذكر الأدلة والتعليلات التي ذكرها الفقهاء، ثم لم يترك أيضاً الخلاف هكذا، وإنما أخذ رحمه الله تعالى يرجح ما يراه راجحاً، فصار كتابه الذي طبع في مجلدات عديدة موسوعة من أهم موسوعات الفقه الإسلامي، ومرجعاً من أهم المراجع لدى العلماء من بعده وإلى عصرنا الحاضر، ومن ثّم اشتهر رحمه الله تعالى بأنه صاحب (المغني) ، فكأن شهرة كتابه (المغني) غطت على اسمه رحمه الله تعالى، فإذا قيل: صاحب (المغني) انتقل هذا التعريف إلى هذا الإمام الجليل الذي سبق أن ذكرنا نسبه باختصار.
هذا الإمام الجليل ولد سنة (٥٤١هـ) بفلسطين، ببلدة تسمى جماعيل قرب نابلس، وتوفي رحمه الله تعالى سنة (٦٢٠هـ) .
وأقول: إن هذا العالم الجليل تميز فوق تميزه العلمي بمثل كتابه (المغني) بمختصراته الأخرى في الفقه، ككتابه (المقنع) الذي يعتبر للمتوسطين، و (الكافي) وهو فوق ذلك، وأيضاً مثل كتابه (العمدة) للمبتدئين، إضافة إلى كتابه (روضة الناظر في أصول الفقه) وهو كتاب مشهور، وغير ذلك من رسائله وكتبه، ومنها هذا الكتاب الذي سنبدأ دراسته في هذه الدروس المتوالية إن شاء الله تعالى.
وأقول: إن هذا العالم الجليل فوق كونه عالماً بارعاً مصنفاً كان أيضاً إماماً مجاهداً، فقد اشتهر رحمه الله تعالى بمشاركاته في الجهاد في سبيل الله مع صلاح الدين الأيوبي هو وجماعته المقادسة من إخوانه وأبناء عمومته رحمهم الله تعالى، فإن هذه الأسرة كانت مع صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى في جهاده، وشارك في المعارك التي دارت سنة (٥٨٣هـ) لقتال الصليبيين وتحرير بيت المقدس منهم، وكان ابن قدامة رحمه الله تعالى وأفراد أسرته ممن له دور كبير في جهاد الصليبيين.
إذاً: إمامنا هو إمام علم، وإمام عمل وجهاد، وهؤلاء هم سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى الذين كانت صفاتهم تميزهم بهذا التميز: علم مؤصل، ويعقبه عمل ودعوة وجهاد في سبيل الله.