لو قيل للأشعرية: إذا قلتم إن الكلام يقوم بالله لا ينفصل عنه، فهذا المصحف ماذا تقولون عنه؟ قالوا: هذا المصحف ليس كلام الله! وإنما هو عبارة عن كلام الله أو حكاية عن كلام الله، أي أنه نوع من الإلهام عبر عنه جبريل بهذا المصحف، بل بعضهم قال: عبر عنه محمد! ونحن نطعن في المستشرقين وغيرهم من المبشرين الذين يقولون: إن القرآن من محمد، بينما بعض هؤلاء المتكلمين من الأشاعرة يقول: القرآن كلام محمد عبر به عن كلام الله.
قيل لهم: هل هناك فرق بينكم وبين المعتزلة، فالمعتزلة يقولون هو مخلوق، وأنتم أيضاً تقولون إنه من كلام محمد؟ قالوا: نعم، القرآن العربي في جانب منه مخلوق، وهو كونه بهذه اللغة العربية، أو بالنسبة للتوراة باللغة العبرانية، أو الإنجيل باللغة السريانية، فهذه كلها مخلوقة لأنها ليست هي كلام الله، وإنما كلام الله هو القائم بذاته الذي لا ينفصل عنه، فقيل لهم: إذاً: ليس بينكم وبين المعتزلة فرق.
وأهل السنة والجماعة -وهم الوسط- وفقهم الله سبحانه وتعالى لسيرهم على المنهاج الحق بأن قالوا القول الحق في هذه المسألة؛ فقالوا: القرآن هو كلام الله تعالى تكلم به، والله سبحانه وتعالى يتكلم إذا شاء متى شاء، ومن كلامه القرآن، فيثبتون الكلام القائم بذاته، ويثبتون لله ما ورد الدليل على أنه كلام الله مثل القرآن؛ ولهذا فإن أهل السنة والجماعة يقولون: إن الله متصف بصفة الكلام أزلاً، وإنه تبارك وتعالى كلم موسى في ذلك الوقت الذي وجد فيه موسى لما كان بجانب الطور.
والأشاعرة قيل لهم: ماذا تقولون في كلام الله لموسى؟ قالوا: كلمه بكلامه الأزلي القائم بذاته، قيل لهم: فلماذا موسى؟ قالوا: سمع كلام الله الأزلي القائم بذاته! وهذا الذي قالوه لا يعقل أبداً، وهم إنما قالوا هذا لأنهم لا يثبتون أن الله يتكلم إذا شاء متى شاء، وعندهم أن كلام الله سبحانه وتعالى لا ينفصل عنه أبداً، وإنما هو الكلام الأزلي.
ومن قول أهل السنة أن الله يتكلم، وكلامه سبحانه وتعالى تسمعه الملائكة ويبلغونه، ويكتب أحياناً في الصحف، ويكتب في اللوح المحفوظ، وهذا القرآن هو كلام الله، وهو مكتوب في المصاحف؛ ولهذا فإن الكلام إنما هو لمن تكلم به مبتدئاً، فالقارئ للقرآن يتلو القرآن بصوت، لكن المقروء كلام الله تعالى، ولو جاء واحد -مثلاً- وقرأ علينا معلقة امرئ القيس، فهل نقول: هذا هو الذي قال معلقة امرئ القيس أو نقول: المعلقة للشاعر امرئ القيس، وهذا نقلها إلينا أو قرأها علينا أو نحو ذلك؟ فالكلام هو لمن قاله مبتدئاً، والله سبحانه وتعالى تكلم بالقرآن، وهذا القرآن نقله جبريل وتلقاه محمد صلى الله عليه وسلم، وتلقاه الصحابة وكتبوه، فهو كلام الله سبحانه وتعالى.
إذاً: القضية هنا هي إثبات صفة الكلام لله، وأن الله سبحانه وتعالى متصف بصفة الكلام أزلاً، وأنه يتكلم إذا شاء متى شاء، فكلم آدم في وقت خلق آدم، وكلم موسى في وقت وجوده، وكلم محمداً في وقت وجود محمد ليلة المعراج، ويكلم أهل الجنة يوم القيامة حينما يدخلون الجنة، فالآن لو فرضنا أن ثلاثة أشخاص: الأول منهم أخرس لا يتكلم، والثاني: يهذي ليلاً ونهاراً لا يكل، والثالث: عنده قدرة على الكلام لكن يتكلم إذا شاء متى شاء، فأي الثلاثة أكمل؟ فالأول الأخرس وقد نتفق على أنه متصف بصفة نقص؛ لأنه لا يتكلم، لكن إذا جاءنا واحد وقال: هذا المهذار الذي يتكلم ليلا نهاراً أحسن من ذلك الذي يتكلم مرة ويسكت، فنقول: لا، فإنه لا شك أن الأكمل هو الذي يتكلم إذا شاء، هذا بالنسبة للمخلوق، ولله المثل الأعلى.
وقد دلت النصوص المتكاثرة على أن الله سبحانه وتعالى متصف بصفة الكلام، وأنه يتكلم إذا شاء متى شاء، وأن من كماله تبارك وتعالى أنه كلم موسى في هذا الوقت الذي كان فيه موسى بجانب الطور، كلاماً سمعه موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، أما القول بأنه لا يتكلم فهذه صفة نقص، والقول بأنه لا يتكلم بمشيئته وإرادته هذه أيضاً صفة نقص، والله سبحانه وتعالى منزه عن النقائص، ومن صفات الله تعالى أنه متكلم بكلام قديم النوع حادث الآحاد، يسمعه منه من شاء من خلقه، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى كلم عباده فيسمعهم كلامه.