[تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة]
بعد أن أنهى المصنف رحمه الله تعالى الكلام في باب القدر بدأ يعرض لتعريف الإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين معنى الإيمان في حديث جبريل فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) ، وقد أجاب عن الإسلام بأنه: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) .
إذاً: فسر الإيمان هنا بالأمور الباطنة، وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، لكنه في حديث آخر في صحيح البخاري وغيره، قال لوفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنتم) ، ففسر الإيمان هنا بالأعمال الظاهرة.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون -وفي رواية مسلم: بضع وسبعون- شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) ، فقوله: (وأدناها إماطة الأذى) الإماطة عمل ظاهري.
وقوله: (أعلاها قول لا إله إلا الله) إيمان ظاهري، كما قال قائل: الرسول يقول: (بضع وستون، أو بضع وسبعون) ، فعددوها لنا، فسنذكر له أولاً أركان الإيمان؛ ثم نقول: الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، وبر الوالدين إلخ، فشعب الإيمان ليست مختصة بعمل القلب، وإنما تشمل أعمال الجوارح.
هذا هو الذي انطلق منه أهل السنة والجماعة، فأهل السنة والجماعة لما جاءوا يعرفون الإيمان عرفوه بما قال المصنف هنا، فإنه قال: [فصل: والإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان] .
قوله: (الإيمان قول باللسان) ، أي نطق، ونطق اللسان هو أن ينطق الإنسان بالشهادتين، وهذا إيمان، وكذلك إذا نطق بذكر الله، فقولك بلسانك: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ هذا نطق باللسان، وهكذا بقية الأذكار التي ينطق بها الإنسان بلسانه.
وقوله: (وعمل بالأركان) ، الأركان الجوارح، ومثال العمل بالأركان الصلاة والركوع والسجود، والحج، والزكاة، والجهاد في سبيل الله، فكل ما تفعله بيدك من طاعة لله فهو عمل، وكل ما تمشي إليه برجلك فهو عمل، وكل ما تعمله بجسدك فهو عمل بالأركان.
وقوله: (وعقد بالجنان) ، أي: ما يعتقده الإنسان بالجنان وهو القلب، أي: اعتقاد القلب، واعتقاد القلب هنا يشمل أمرين: يشمل تصديقه، وذلك أن يصدق الإنسان بقلبه، ويشمل أعمال القلوب، مثل الخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والمحبة.
إذاً: استنتجنا من تعريف أهل السنة والجماعة للإيمان أنه يشمل أموراً ثلاثة: يشمل نطق اللسان، ويشمل اعتقاد القلب، ويشمل عمل الجوارح، وهذا واضح جداً.
وقال بعض السلف: (الإيمان قول وعمل) ، وقوله هذا صحيح، فقوله: (قول) أي نطق باللسان، وقوله: (وعمل) يشمل عمل القلب وعمل الجوارح.
فهم بهذا التعريف الصحيح المنطبق على ما عليه أهل السنة والجماعة يحددون المعنى الموافق للتعريف الآخر الذي ذكره المصنف هنا.
ونحن نحدد هذا المعنى لأهل السنة والجماعة، لأن الأدلة دلت على ذلك، فقوله صلى الله عليه وسلم: (آمركم بالإيمان: أن تشهدوا) هذا قول، وهو واجب، وهو من الإيمان.
واعتقاد القلب هو الإخلاص، وقوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:٥٤] ، وقوله: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:١٧٥] ، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:٥] ، هذه من أعمال القلوب.
فأعمال الجوارح هي كل ما يتعلق بشعب الإيمان المتعددة التي تعمل بالجوارح، وكلها داخلة في الإيمان، والأدلة على ذلك متواترة.