للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حال من خالف منهج السلف الصالح]

ثم قال رحمه الله تعالى: [فما فوقهم محسر، وما دونهم مقصر] .

أراد رحمه الله تعالى أن يبين أن منهجهم وسط، فمن أراد أن يغلو ويثبت غير ما أثبتوه، ويظن أنهم أنقصوا بعض الحاجات، فإنه غالٍ عنهم، غير متبع لطريقتهم، ومن دونهم قصر ولم يأخذ بجميع ما جاءوا به، وإنما اكتفى ببعضه ونحو ذلك، فهو مقصر.

ولهذا فلفظة (محسر) هنا ترجع إلى بعض المعاني اللغوية، فإن المقاتل الذي ليس عليه درع ولا على رأسه مغفر يسمى حاسراً.

ولهذا في قصة بني قينقاع كان يقول أحد المنافقين للرسول صلى الله عليه وسلم: يا محمد أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع تضرب أعناقهم مرة واحدة، هذا لا يكون.

فقوله: حاسر، يعني: ليس معهم سلاح، وليس عليهم دروع، وليس على رءوسهم المغفر الذي يتقون به ضرب السيوف، فهم حُسَّر، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى بالنسبة للسماء: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:١-٤] .

ومعنى (حَسِيرٌ) : كليل ضعيف من شدة النظر؛ فإن الإنسان إذا نظر واشتد نظره إلى شيء، ولم ينته فيه إلى أمر، رجع إليه البصر حسيراً كليلاً؛ لأنه لم يصل إلى غاية، وهذا واضح، فالإنسان منا لو قال له قائل: انظر هنا على بعد خمسة عشر أو عشرين كيلو في ذلك الجبل، ففيه بقعة كذا، ولنفترض -مثلاً- أننا ننظر إليها بالناظور، فجاء هذا الإنسان ينظر بالعين المجردة إلى الجبل، فسيرى الجبل، لكن حين يريد أن ينظر إلى البقعة البيضاء أو السوداء أو نحو ذلك تجده ينظر وينظر وينظر وينظر، ثم في النهاية يكل بصره.

هذا الإكلال جاء من شدة المبالغة في النظر.

وهنا يقول عمر بن عبد العزيز: فما فوقهم محسر، أي: من أراد أن يقول أنا أفضل من الصحابة ويثبت ما لم يثبتوه، ويعمل ما لم يعملوه مما فيه هدي الرسول صلى الله عليه وسلم فهو محسر، فيرجع كليلاً، ولهذا قيل: إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.

حتى في باب العبادة نرى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه لما عزم على دوام الصيام أوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم بالأهون، ولكنه قال: (أنا أستطيع أكثر من ذلك) ؛ وما زال يتدرج به حتى قال له: (صم يوماً وأفطر يوماً؛ لا أفضل من صيام داود) ، فـ عبد الله بن عمرو كان في شبابه قوياً فاستطاع، لكنه في آخر عمره قال: (ليتني أطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) مع أن الأمر كله سنة لكنه لا يريد أن يتخلى عن أمر فارق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالمهم أن الإنسان إذا غلا في الأمر انتهى به في النهاية إلى الضعف والعجز؛ ولهذا فإن الغلو مردود، والتقصير مردود؛ لأن التقصير معناه التخلي عن بعض الأمور وعن بعض القضايا التي ورد بها الشرع ووردت بها أدلة الكتاب والسنة، كما أن الغلو فيها يؤدي إلى هذا، ومنهج السلف رحمهم الله تعالى وسط في كل الأمور: وسط في باب العبادات وسط في باب المعاملات وسط في باب الأحكام وسط في باب العقائد وسط بين الملل وسط بين جميع الطوائف؛ فإنك تجد إما طائفة غالية في هذا الباب أو مقصرة، فإما إفراط وإما تفريط، ومنهج أهل السنة والجماعة في هذا الباب وسط، وهذا هو الذي أشار إليه عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.

ولهذا قال شارحاً ذلك: [لقد قصر عنهم قوم فجفوا] .

فالجافي هو المقصر؛ لأن المقصر هو الذي أعرض، فكأنه أعرض عن بعض منهجهم.

ثم قال: [وتجاوزهم آخرون فغلوا] .

وهذا تفسير للعبارة السابقة.

ثم قال: [وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم] .

أي: إن أولئك السلف والصحب الكرام رحمهم الله تعالى كانوا بين ذلك على طريق مستقيم.

<<  <  ج: ص:  >  >>