أن الاستحسان إذا خالف القياس لزم بطلان الاستحسان إن كان القياس صحيحا أو بطلان القياس إذا كان المعارض له صحيحا. وهذا يتوجه فيمن يقول بالاستحسان وجعل معارضة الاستحسان للعلة كمعارضته لحكمها، وهذا قول نفاة الاستحسان مطلقًا.
والتحقيق في ذلك: أنه إذا تعارض القياس والاستحسان فإن لم يكن بينهما فرق وإلا لزم بطلان أحدهما وهو مسألة تخصيص العلة بعينها؛ فإن لم يكن بين المخصوصة وغيرها فرق لزم التسوية؛ وحينئذ فإما أن تكون العلة باطلة، وإما أن يكون تخصيص تلك الصورة باطلاً. وهذا هو الصواب في هذا كله، وهو الذي ينكره الشافعي وأحمد وغيرهما على القائلين بالقياس والاستحسان الذي يخالفه؛ فإنهم لا يأتون بفرق مؤثر بينهما، كما لم يأتوا بفرق مؤثر بين نبيذ التمر وغيره من المائعات، ولا بين القهقهة في الصلاة التي فيها ركوع وسجود وبين صلاة الجنازة وغيرها مما يشترطون فيه الطهارة.
وذكروا أدلة أخرى جيدة كقولهم -واللفظ للقاضي-: وأيضا فإن ما ورد به الأثر قد صار أصلا فوجب القياس عليه كسائر الأصول، وليس رد هذا الأصل لمخالفة تلك الأصول له بأولى من رد تلك الأصول لمخالفة هذا الأصل، فوجب إعمال كل واحد منهما في مقتضاه وأجراؤه على عمومه.
وأيضًا: فإن القياس يجري مجرى خبر الواحد بدليل أن كل واحد منهما يثبت بغالب الظن، ثم ثبت أنه يصح أن يرد مخالفا لقياس الأصول، كذلك القياس مثله. اهـ.
قلت: ومن هذا الباب جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ومزدلفة لو لم يرد به نص في أسفار أخر وأن قصره الصلاة بعرفة بأهل مكة وغيرهم فليس مخالفا لعادته فإنه ما زال يقصر في السفر؛ بل هو بيان استواء السفر