للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واضطرابات وفتن. فكم ندّد خير الدين بحكومة الإطلاق وبمساويها. وذلك لِما تميّزت به من استبداد الرأي فيما ينبغي الاستشارة فيه، ولِما أظهرته من عدم المبالاة بالرعايا والمحكومين، فتصرّفت في حقوق الناس تصرُّف من لا يخاف تبعة، ولا يخضع لحساب أو مراقبة.

ويقابل هذه الأوضاع السائدة الفاسدة في العالم الإسلامي ما عليه أوروبة من تنظيمات، وما بلغته من قوة وتمدن. وهل التقدم المدني الإنساني إلا مرهون بحجم الثروة والعلوم والعمران والقوة السياسية في الجماعة، كما هو مرهون بطبيعة الروابط الاجتماعية وبما ينشأ عنها من تعاون وتعاضد في هيئة الاجتماع (١).

ولا شك في أن الفكر الإسلامي عند هذا المصلح قد تكفّل بجميع هذه المزايا. فهو يعلن عن ذلك في منهجه، ويصرِّح بأن التاريخ يشهد بأن التطبيق الصريح الأمين للشريعة الإسلامية قد أدّى دوماً إلى نتائج باهرة، لا ترجع إلى المصادفة، ولا إلى تأثير ظروف خاصة، وإنما إلى الأثر الطبيعي لروح الشريعة ولاستعداداتها الفذة (٢).

وهو مع موقفه هذا الذي أكّده غير مرّة في مقدمة كتابه، يعتقد أن الملتزم به مدعوّ دون شك إلى أن يأخذ بأسباب التطور والتقدم، إعمالاً لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} (٣)، ولأن التجاور يوجب التجانس في التنظيمات الضرورية والتنافس عليها. ومن لم يفعل جَرَفَه التيار وقضى على وجوده. هذا وقد حكى عن بعض معاصريه: أن التمدن الأوروبي تدفَّق سيلُه في الأرض، فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع. فيُخشى


(١) رفيق العظم. السوائح الفكرية في المباحث العلمية: ١/ ٤ - ٥.
(٢) خير الدين. مذكرات بالفرنسية: ١٤١.
(٣) الأنفال: ٦٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>