للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نبيه الكريم، وهو الذي علّمه ما لم يكن يعلم، وزكّاه بأنه على خُلُق عظيم، وعلى صراط مستقيم، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} قولاً جعل طَلَبَ العِلْم، والحرصَ عليه، والاستزادةَ منه، أعظمَ مطلوب لأشرف موجود. وبذلك كان العلم تاجَ نبوَّته، وشعارَ ملّته.

وإني أحمد الله على أن أودع فيَّ محبةَ العلم، والتوقَ إلى تحصيله وتحريره، والأنسَ بدراسته ومطالعته، سجيةٌ فُطرت عليها، فخالطت شغاف قلبي، وملأت مهجتي ولُبّي، وغرزت فيّ غريزة نمّتها التربية القويمة التي أخذني بها مشايخي طيب الله ثراهم، وطهر ذكراهم، ممن جمع أبوّة النسب وأبوّة الروح، أو ممَّن اختصّ بالأبوة الروحية وحدها؛ حتى أصبحتُ لا أتعلَّقُ بشيء من المناصب والمراتب، تعلُّقي بطلب العلم، ولا آنسُ برفقةٍ ولا حديث أُنْسِيَ بمسامرة الأساتيذ والإخوان في دقائق العلم ورقائق الأدب؛ ولا حبِّب إليّ شيء ما حُبّبت إليّ الخلوة إلى الكتاب والقرطاس، متنكّباً كل ما يجري حولي من المشاغل. فلا تكاليف الحياة الخاصة، ولا أعباء الأمانات العامة التي حُمّلتها فاحتملتها، في القضاء وإدارة التعليم، حالت بيني وبين أُنسي في دروس تضيء منها بروق البحث الذكي، والفهم الصائب بيني وبين أبنائي من الطلبة الذين ما كانوا إلا قرَّة عين وعُدَّة فخر، ومنهم اليوم علماء بارزون، أو في مطالعات وتحارير أخلص فيها نجيّاً إلى الماضين من العلماء والأدباء، الذين خلفوا لنا في آثارهم الجليلة ميادين فسيحة ركضنا فيها بالأفهام والأقلام، ومرامي بعيدة سدّدنا إليها صائب السهام.

فالحمد لله الذي بوّأنا، بين الماضين من أسلافنا والآتين من أخلافنا، منزلة مَن تلقّى الأمانة فأدّاها، وأوتي النعمة فشكرها ووفّاها" (١).


(١) من كلمته التي ألقاها أمام الرئيس بورقيبة يوم إسناده أول جائزة رئاسية إليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>