للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا أحسب جعل اعتصار الهبة حقاً للأب من ابنه إلا ناظراً إلى تدارك سرعة الآباء إلى عقد التبرعات لأبنائهم دون مزيد التأمل بداعي الرأفة. وتيقّن أن مال ولده مالٌ له، فإذا عرضت ندامة جعل له الشرع مندوحة للرجوع في هبته. وهو مع ذلك فيه إبقاءٌ لمعنى حقّ الأبوة بأن لا يكون الابن سبباً في التضييق على أبيه. وألحقت به الأم ما دام الأب حياً على تفصيل في ذلك محلُّه كتب الفقه.

وقال البخاري في صحيحه: "قال مالك: العريّة أن يُعْرِيَ الرجلُ الرجلَ نخلةً ثم يتأذّى بدخوله عليه. فرُخِّص له أن يشتريَها منه بتمر" (١) اهـ.

[وهكذا] فَهِمْنا أن الشريعة حريصةٌ على دفع الأذى عن المحسنِ أن ينْجر له من إحسانه، لكيلا يكره الناسُ فعلَ المعروف.

المقصد الثالث: التوسع في وسائل انعقادها حسب رغبة المتبرّعين. ووجه هذا المقصد أن التبرّع بالمال عزيزٌ على النفس. فالباعث عليه أريحية دينية، ودافع خلقي عظيم. وهو مع ذلك لا يسلم من مجاذبة شحّ النفوس تلك الأريحية. وذلك الدافع في خطرات كثيرة أقواها ما ذكره الله تعالى بقوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} (٢). وقد تبيّن ترغيبُ الشريعة فيها في المقصد الأول. ففي التوسع في كيفيات انعقادها خدمة للمقصد الأول.

ولأجل هذا المعنى أباحت الشريعة تعليقَ العطيّة على حصول موت المعطي بالوصية وبالتدبير، مع أن ذلك مناف لأصل التصرّف في المال لأن المرء إنما يتصرّف في ماله مدة حياته. ومن أجل


(١) انظر ٣٤ كتاب البيوع، ٨٤ باب تفسير العرايا. خَ: ٣/ ٣٣.
(٢) البقرة: ٢٦٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>