فلذلك كان من حكمة الشريعة أن جعلت عقوبة الجاني لزجر غيره، فلم تخرج عن العدل في ذلك. فإذا كان من شأن الشريعة إقامةُ الحدود والقصاص والعقوبات حصل انزجار الناس عن الاقتداء بالجناة. وليس عفو المجني عليه في بعض الأحوال بمفيت فائدة الانزجار لندرة وقوعه، فلا يكون عليه تعويل عند خطور خاطر الجناية بنفس مضمر الجناية. ولهذا السبب نرى الشريعة لا تعتبر العفو في الجنايات التي لا يكون فيها حقّ لأحد معيّن، مثل السرقة وشرب الخمر والزنا، فإن فيها انتهاكاً لكيان التشريع، وكذلك الحرابة. وأما قتل الغيلة فلم يقبل فيه عفو الأولياء لشناعة جنايته، وإنما قبلت توبة المحارب قبل القدرة عليه حرصاً على الأمن وحثّاً لأمثاله على الأسوة الصالحة.
وقد تم ما تعلق به الغرض المهمّ من إملاء مقاصد الشريعة، وعسى أن تنفتح به بصائر المتفقهين إلى مدارك أسمى، وتشتدّ به سواعد حزامتهم لأبعد مرمى. فإن التيسير من الله مساعف أجمل المقاصد، وإن الغائص المليء خليق بأن يسمو بالفرائد.
وكان تمام تبيضيه في ٨ شهر جمادى الأولى عام ستين وثلاثمائة وألف، بمنزلي بمرس جراح المعروف بالعبدلية. قاله محمَّد الطاهر ابن عاشور.
* * *
هذه مقاصد الشريعة الإِسلامية للإمام الأكبر شيخ الإِسلام محمَّد الطاهر ابن عاشور. أقام رحمه الله أصولها وأتبعها بما زانها من تحديد وتفصيل وتحقيق وتقرير. فملأ قلوب الدارسين إيماناً، وزادهم علماً وفهماً لأحكام كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فاستنارت بها عقولنا وانشرحت بها صدورنا، ودَلَّنا المؤلَّف على ما انتظمته الشريعة من بيان للناس وهدى وحكمة كانت بها ظاهرة على ما دونها من القوانين والأحكام.