للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والفئة الثانية: تزيّن تأليفها بالنقل عن العلماء والمشاهير أمثال الغزالي وعبد القاهر وابن العربي، لكنك قلّما تجد مَن نهج على منوال هؤلاء العظماء، لأن التقليد إذا صافحه الضعف والفتور، تعلق بسفاسف الأمور. وربما مرّ أصحاب هذه الفئة على مواضع مشكلة من كلام المتقدمين، فيتحاشونها، ولا يقدمون على تحقيقها، مثل كلام عبد القاهر في المعاني الثواني، والغزالي في باب البيان من المستصفى، وابن العربي في حديثه عن المتشابه في شرح الترمذي (١).

وبقدر ما كانت النقول لدى السابقين تأكيداً وتقوية لما يصوّرونه من أغراض، ويبدونه من آراء، كانت عندهم شاهداً على ضعف العقل، وذهاب الملكات، وكثرة التهريج. وحين استقرّ في أذهانهم العجز عن ملاحقة السابقين قالوا: "ما ترك الأول للآخر"، "وما أصحّ علم من تقدم"، وإذا لم يقدروا على المفاضلة والترجيح، ولو بعد تكلّف وإجهاد، بين أنظار المتقدمين واختلاف آرائهم، استسلموا قانطين، وذهبوا مرددين: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (٢). وغير بدع من الأمر أن يتولّد عن هذه الحالة النفسية لديهم تقديس مطلق للمتقدّمين، أشعرَهم بالنقص، وعدم القدرة على الإتيان بما أتَوا به، وأنّى للتابع أن يبلغ مبلغ الرائد في سداد رأيه، وصحّة نظره، وقدرته على الاجتهاد. ووقع في يقينهم أن كلَّ مسطور يظفرون به أو يقفون عليه ينتسب إلى السابقين صحيح لا يمكن الطعن فيه ولا يُتردّد في الأخذ بما فيه. ونشأت عن هذه العقلية نزعات كان قد نبّه إليها الشيخ ابن عاشور في قوله:


(١) محمد الطاهر ابن عاشور. أليس الصبح بقريب: ١٦٩.
(٢) البقرة: ١٤٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>