وملهماً. وفي كثرة الأوزان والأعاريض واختلاف البحور وتنوّع القوافي ما جعل الشاعر العربي أروع تخييلاً وأكثر تميزاً من غيره في هذا الفن، لأن الشعر في غير العربية محصور في أوزان محدودة لأغراض مخصوصة. ويتجلّى الشاعر عندنا بمعرفته العميقة بأسرار العربية وأساليبها. وهذا جزء مهم من علم البلاغة اعتمده النقاد للنظر في صحّة المعاني واختلالها، وابتكارها وسرقتها، وبساطتها وتكلُّفها. ولا يبلغ الشاعر من الإحسان أعلى درجاته، ومن الإبداع أرقى صوره إلا إذا التقى لديه حسنُ اختيار المعاني المناسبة للظروف والمقامات التي تدعوه للنظم والإنشاء، وحُسْنُ اللفظ والميزان اللذين يمكّنانه من بديع التخييل وعميق التأثير.
والنثر كالشعر، وقع إغفاله والانصراف عن الاعتناء به. وقد كانوا يظنونه كلمات تحفظ وتردَّد في المناسبات. وقالوا: هو غير قابل للتعليم إذ لا قواعد له، ومن ثم وقع إهماله كالتاريخ. وما كانوا يرون في قراءة كلام البلغاء فائدة. فهم يعتبرون ذلك مجرد تظرف. ولم يعلموا أن في مطالعة كتب النثر والشعر من جيد الكلام ومحاسنه ما يورث القراء والمشغوفين بالمطالعة سعةَ في التفكيرِ، وصحةً في التعبير، وفصاحةً في اللسان. وهذا لا يتوقّف على تعلُّم قواعد تدرس، لأن قواعد هذا الفن قواعد إجمالية لتوصيف أحوال الكلام والمعنى. وإنما المعتمد في هذا المجال مخالطة البلغاء والوقوف على آثارهم والإقبال عليها، تفهماً وتذوقاً وحفظاً، ثم محاكاتها والنسج على منوالها والتدرّب عليها. ففي ذلك سر الاقتدار والتأليف في جميع فنون النثر والكتابة.