وبعد الاحتجاج بأقوال الفقهاء في متنه وسنده، يفتتح الجزء الأول من البحث بذكر مرجع الاختلاف في الحديث بين رواته ونقاده. فمنهم من سلك مسلك تغليب جانب التهمة والحذر من قبول الرواة، ومنهم من كان متّسماً بحسن الظن فيهم والتسامح معهم. وغير خاف تشدّد عمر بن الخطاب في ذلك. كما يشهد لهذا ما رواه مالك والبخاري عنه في حديث الاستئذان، حتى إذا رضيه واطمأن إليه، قال لأبي موسى راويه: إني لا أتهمك، ولكني أردت ألا يتجرأ الناس على حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وبهذا النهج أخذ المحقّقون من المحدّثين مثل الإمام مالك الذي لا يقبل مجهول الباطن وإن كان مستور الظاهر، خلافاً لأبي حنيفة وابن فورك وسليم الرازي الذين قبلوا مستور الظاهر وإن جُهل باطنه. واحتج أصحاب الرأي الأول بمقالات المتقدّمين، كابن عباس وابن سيرين وأبي هريرة، ولزم ذلك أصحابُ مالك كعبد الله بن المبارك وابن مهدي، وأصحابُهم كالبخاري ومسلم.
وبعد إيراد الدلائل القائمة على صحة مذهب المحقّقين، يعلن الإمام الأكبر في وضوح عن رأيه مع كبير أدب ورقة مجاملة قائلاً:
"وأنا أرى التحرّي أولى بالمسلمين. فقد طفحت عليهم الروايات، فكانت منها دواهٍ وطامّات. فإذا كنّا متّفقين في طريقنا في تغليب جانب التحرير فالمراجعةُ سهلةٌ، ولو لاح الخلاف في أول وهلة، وإن كان كل ينحو إلى منهج من ذينك المنهجين، فالاختلاف في الفروع تبع للخلاف في الأصول. فلنتمسك بوثائق الود، ولا نتَّهم باختلاف الأفهام والعقول".
وفي القسم الثاني من البحث يعمد شيخنا الجليل إلى حصر