وفى الصحيحين من حديث أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول:«الطاعون رجز أرسل على طائفة من بنى إسرائيل، وعلى من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا منه»«١» . وقد ذكر العلماء فى النهى عن الخروج حكما:
منها: أن الطاعون: فى الغالب يكون عاما فى البلد الذى يقع به، فإذا وقع فالظاهر مداخلة سببه لمن هو بها، فلا يفيده الفرار، لأن المفسدة إذا تعينت حتى لا يقع الانفكاك عنها كان الفرار عبثا فلا يليق بالعاقل.
ومنها: أن الناس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز عنه بالمرض المذكور أو بغيره ضائع المصلحة، لفقد من يتعهده حيّا وميتا. وأيضا: لو شرع الخروج. فخرج الأقوياء لكان فى ذلك كسر قلوب الضعفاء، وقد قالوا: إن حكمة الوعيد فى الفرار من الزحف لما فيه من كسر قلب من لم يفر، وإدخال الرعب عليه بخلافه.
وقد جمع الغزالى بين الأمرين فقال: الهواء لا يضر من حيث ملاقاته ظاهر البدن، بل من حيث دوام الاستنشاق، فيصل إلى القلب والرئة فيؤثر فى الباطن ولا يظهر على الظاهر إلا بعد التأثير فى الباطن، فالخارج من البلد الذى يقع فيه لا يخلص غالبا مما استحكم به، وينضاف إلى ذلك أنه لو رخص للأصحاء فى الخروج لبقى المرضى لا يجدون من يتعاهدهم فتضيع مصالحهم.
ومنها: ما ذكره بعض الأطباء: أن المكان الذى يقع به الوباء تتكيف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة فتألفها وتصير لهم كالأهوية الصحيحة لغيرهم فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة لم توافقهم، بل ربما إذا استنشقوا هواءها استصحب معه إلى القلب من الأبخرة الرديئة التى حصل تكيف بدنها بها فأفسدته فمنع من الخروج لهذه النكتة.
(١) صحيح: أخرجه البخارى (٣٤٧٣) فى أحاديث الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم (٢٢١٨) فى السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها.