للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

خصوصا إذا كبر، فيقول: قد ضعفت وكبرت فأبق على نفسك لئلا ينقطع عملك بالكلية، وهذا وإن كان ظاهره جميلا لكن فيه دسائس، فإنه إن أطاعه فقد يكون استدراجا يئول به إلى ترك العمل شيئا فشيئا، إلى أن ينقطع بالكلية، وما ترك سيد المرسلين، المغفور له، شيئا من عمله بعد كبره.

نعم كان يصلى بعض ورده جالسا بعد أن كان يقوم حتى تفطرت قدماه، فكيف بمن أثقلت ظهره الذنوب والأوزار، ولا يأمن عذاب النار، أن يغافل حال شيبته، ويتوانى عند ظهور شيبه فينبغى للإنسان أن يستعد قبل حلول مشيبه. «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك» «١» فإن من شاب فقد لاح صبح سواد ليل شعره، وقد قال تعالى منذرا لمن يدخل فى الصباح: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ «٢» فكيف بقرب من دخل فى الصباح، وظهر كوكب نهاره فى أفق رأسه ولاح؟!

قال القرطبى: ظن من سأله- صلى الله عليه وسلم- عن سبب تحمله المشقة فى العبادة أنه إنما يعبد الله خوفا من الذنوب، وطلبا للمغفرة والرحمة، فمن تحقق أنه غفر له لا يحتاج إلى ذلك، فأفادهم أن هناك طريقا آخر للعبادة، وهو الشكر على المغفرة، وإيصال النعمة لمن لا يستحق عليه فيها شيئا، فيتعين كثرة الشكر على ذلك، والشكر: الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن كثر ذلك سمى شكورا، ومن ثم قال الله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «٣» .

وفيه: ما كان النبى- صلى الله عليه وسلم- عليه من الاجتهاد فى العبادة والخشية من ربه عز وجل، قال العلماء: إنما ألزم الأنبياء أنفسهم بشدة الخوف لعلمهم بعظيم نعمة الله عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم فى عبادته ليؤدوا بعض شكره، مع أن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، والله أعلم، انتهى.


(١) صحيح: أخرجه الحاكم فى المستدرك، والبيهقى فى «شعب الإيمان» عن ابن عباس، وأحمد فى الزهد، وأبو نعيم فى الحلية، والبيهقى فى «شعب الإيمان» عن عمرو بن ميمون مرسلا، كما فى «صحيح الجامع» (١٠٧٧) .
(٢) سورة هود: ٨١.
(٣) سورة سبأ: ١٣.